كان لفشل الجيش الإسرائيلي في العثور على أي أثر لقيادة حركة حماس أسفل مجمّع الشفاء توسيع الشرخ الكبير في صورة شعبة الاستخبارات الإسرائيلية، وانعكس ذلك سلباً بسبب تصريحات قيادة الجيش الإسرائيلي وقادة الحكومة الإسرائيلية، الذين ادّعوا على نحو متكرّر بوجود مقرّ القيادة الرئيسي لحماس أسفل مجمّع الشفاء.
وبعد هذا الفشل الذريع خرج الجيش الإسرائيلي بالقول إن قيادة حماس موجودة في مدينة خان يونس جنوب القطاع، وإن المرحلة الثانية من العملية البرية ستتركز في الجزء الجنوبي من القطاع في محاولة لإحياء صورة النصر التي رُسمت في أذهان الإسرائيليين حول الغنيمة الكبيرة في مجمّع الشفاء.
تعتبر محافظة خان يونس من أكبر محافظات قطاع غزة مساحة وثانيتها تعداداً للسكان، ويعتبرها الجيش الإسرائيلي المعقل الأهم لقيادة حماس السياسية والعسكرية، ففيها منزل رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، ومسقط رأس القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، بالإضافة إلى قادة عسكريين آخرين أبرزهم محمد السنوار شقيق رئيس الحركة في غزة.
الهجوم الأولي
تحت غطاء النيران والقصف العنيف "Harassing fire" أو ما يعرف في الشارع الغزي بـ"الأحزمة النارية"، تقدمت قوات الجيش الإسرائيلي المدرعة فجر يوم السبت الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2023 انطلاقاً من محور التقدم المعتاد من بوابة "كيسوفيم" ضمن مسلكَين، الأول عبر طريق 86 وصولاً إلى طريق صلاح الدين الرئيسي، ثم الانتشار والتموضع في أرض "أبو هولي" و"الجعفراوي" بجوار شركة المطاحن الفلسطينية في شمال مدينة خان يونس.
والمسلك الثاني تجاه منطقة "أبو هداف" و"السميري" شرق بلدة القرارة ولكنه فشل في التقدم، ثم واصل عبر المسلك الأول، وبنى السواتر الترابية لحماية قواته المدرعة المنتشرة في أرض "أبو هولي" و"الجعفراوي" تحضيراً لبدء الهجوم الرئيسي على المدينة.
الهجوم الرئيسي
في فجر الثلاثاء الخامس من ديسمبر/كانون الأول، بدأ الهجوم الرئيسي على خان يونس تحت غطاء النيران والقصف العنيف والأحزمة النارية الكثيفة، وقد وُصفت هذه الليلة بالأعنف طوال أيام الحرب، وذلك تحت قيادة فرقة النار (الفرقة 98) التابعة للمنطقة العسكرية المركزية في الجيش الإسرائيلي التي تضم لواء المظليين رقم 35 ولواء الكوماندوز "عوز" (والذي يضم الوحدات الخاصة ماجلان ودفدوفان وإيغوز) ولواء المدفعية "مقلاع داوود"، ولواءين آخرين من الاحتياط التابع للفرقة، بالإضافة إلى قوات من خارج الفرقة، ولكن تعمل تحت إمرتها وهي كتائب مدرعة من اللواء السابع ولواء المشاة النظامي "جيفعاتي".
وقد تقدمت عبر محورَين، المحور الأول عبر مسلك واحد انطلاقاً من موقع التموضع في أرض "أبوهولي-الجعفراوي" إلى اتجاه الجنوب، مع بقاء القوات المتوغلة في الغرب من طريق صلاح الدين تجاه منطقة السطر الغربي التي تعتبر منطقة زراعية سكنية، ثم وصلت قوات الجيش الإسرائيلي إلى طريق جمال عبد الناصر الذي يربط السطر الغربي والقرارة بوسط خان يونس إلى آخر نقطة تقدم، وهو شارع خمسة الذي يربط طريق صلاح الدين بشارع الرشيد "البحر"، وقد رفعت قوات الجيش السواتر الترابية لحماية الآليات والقوات المتموضعة محيط منزل يحيى السنوار.
المحور الثاني للهجوم الرئيسي بدأ انطلاقاً من جنوب "بركة السريج" وذلك عبر مسلكين، الأول من شرق بني سهيلا وصولاً إلى منطقة "الزنة" ومنطقة "فياض"، وقد توقف زخم الهجوم في هذا المسلك، ثم المسلك الثاني من جنوب بركة السريج أيضاً عبر منطقة "الرضاوين" إلى عبسان الجديدة عبر منطقة "العنزات" والاتجاه إلى إحاطة مركز مدينة بني سهيلا من الجنوب، وصولاً إلى منطقة "الشيخ ناصر" بالقرب من طريق صلاح الدين، وقد توقفت قوات الجيش الإسرائيلي في هذه المنطقة وتخوض المقاومة اشتباكات عنيفة معها بالأسلحة المختلفة وبالإسناد المدفعي لقصف قوات الجيش الإسرائيلي المتمركزة في مقبرة الشيخ ناصر.
أسلوب عمل الجيش الإسرائيلي
في هذا الهجوم ظهر جلياً أسلوب عمل الجيش، وذلك عبر استخدامه الأسلوب الالتفافي (Turning movement) ومبدأ عمل هذا الأسلوب عن طريق التوغل من خلف القوات المدافعة والوصول إلى مؤخرة القوات ضمن تحرك تكتيكي جانبي وتجنّب الهجوم المباشر وحتى تجاهل مراكز مدن وبلدات شرق خان يونس، ثم بعدها يبدأ هجوم آخر مباشر على مراكز تلك المدن والبلدات التي تجاهلها في تقدّمه.
التفَّ الجيش الإسرائيلي وقواته المدرعة من شمال بلدة القرارة وصولاً إلى طريق صلاح الدين ثم تقدّم نحو السطر الغربي، وأيضاً في محور التقدم الثاني بالمسلك الأول نحو منطقة الزنة وتجنب الدخول إلى وسط مدينة بني سهيلا، ثم في المسلك الثاني تقدم عبر عبسان الجديدة وعبسان الكبيرة، من دون أن يدخل مركز البلدتين، إضافة إلى أنه تجاهل بلدة خزاعة كلياً، وفي الهجوم بأكمله كما ذكرت سابقاً اتبع أسلوب الالتفاف الجانبي من دون تطويق للبلدات والمدن، أي إنه يترك مجالاً لسكان البلدات السابقة وربما للمقاتلين "للانسحاب والإخلاء" ولا يحاصرها، لكيلا يضغط المقاتلين ويجبرهم على القتال لآخر نفس، وأيضاً لكيلا يشغل قواته بالمعارك في هذه البلدات، ويصل إلى وسط المدينة ليحقق "صورة نصر" سريع.
بعد الالتفاف والاختراق السريع ووصول قوات الجيش الإسرائيلي إلى وسط المدينة خلال معارك عنيفة ما زالت مندلعة حتى الآن، أكملت قوات الجيش الموجودة في منطقة الزنة عبر المسلك الأول من المحور الثاني بعد نحو عشرة أيام من بدء المناورة البرية في خان يونس، تقدّمها ووصولها إلى مدرسة "ابن عثيمين"، وبهذا اتصلت القوات الإسرائيلية المتقدمة عبر المحور الثاني بالمحور الأول.
كما أكملت القوات الموجودة في منطقة "الشيخ ناصر" عبر المسلك الثاني من المحور الثاني تطويق مدينة بني سهيلا من دون التعرّض للمدينة نفسها بشكل كبير، وركزت الجهود الرئيسية في وسط خان يونس، في محاولة لتقدم دبابات الميركافا إلى "شارع جلال"، وهو أحد الشوارع الرئيسية والحيوية في وسط المدينة، خاضت خلالها فصائل المقاومة عمليات كرٍّ وفرٍّ في هذه المنطقة استمرت لما يقرب من ثلاثة أسابيع وحتى الآن، ما دفع الدبابات إلى الانسحاب في بعض الأحيان والمحاولة من جديد للتقدم في أحيان أخرى.
خلال هذه المعارك العنيفة، أجرى سلاح الجو الإسرائيلية عملية إنزال لوجستي في عمق مدينة خان يونس باستخدام طائرات "سوبر هركيوليز" من طراز (C-130J)، وذلك للمرة الأولى منذ حرب يوليو/تموز عام 2006، يُرجح أن السبب وراء ذلك يعود إلى تعرّض قوات الجيش الإسرائيلي في خان يونس لهجمات من عناصر المقاومة بسبب الانتشار الطولي الواسع الذي عرقل قدرتها على تأمين قوافل الإمداد بشكل آمن ومستمر إلى وسط المدينة، في الوقت نفسه عزّز الجيش الإسرائيلي قواته المنتشرة بقوات مدرعة إضافية من اللواء الرابع (احتياط) التابع للفرقة الاحتياطية المدرعة 146، وقوات مشاة مدرعة من اللواء الخامس (احتياط) التابع للفرقة المدرعة 162.
وبعد نحو شهر على بدء الهجوم والتموضع في وسط خان يونس وفشله في التقدم أكثر، شنت قوات مدرعة من الجيش الإسرائيلي هجوماً آخر مباشراً على بلدة خزاعة الملاصقة للسياج الفاصل، في محاولة لفتح محور قتالي جديد في مدينة خان يونس؛ لإشغال وحدات الإسناد المدفعي لفصائل المقاومة وتوسيع رقعة الاشتباكات، ظناً منهم أنها ستخفف عن القوات الأخرى الموجودة وسط خان يونس، وأن كتائب القسام وفصائل المقاومة قد تُعيد نشر وتوزيع لعناصرها التي تدافع في المحور الأول والثاني.
لماذا خان يونس؟
مما سبق يتضح أن أحد أهداف الهجوم الرئيسية هو الوصول إلى منزل السنوار، وكان ذلك واضحاً حينما خرج نتنياهو للإعلان عن ذلك، ومن المعطيات الميدانية يبدو أن الهجوم من محور التقدم الأول سيتطور ويستمر إما انطلاقاً من السطر الغربي وصولاً إلى منطقة "حي الأمل" وسيكون هدفه النهائي مجمع ناصر الطبي، أو الأكثر ترجيحاً عبر الالتفاف من وسط مدينة خان يونس وصولاً إلى حي "البطن السمين" المجاور لمقبرة خان يونس والوصول إلى مجمّع ناصر من جهته الجنوبية.
وقد سلّط الكاتب السياسي الإسرائيلي "ناحوم بارنياع" الضوء على مجمّع ناصر الطبي في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، وتساءل "هل يشغل مستشفى ناصر دور مستشفى الشفاء نفسه باعتباره مركز قيادة قادة حماس؟"، وأيضاً هناك العديد من المؤشرات التي قد ترجح هذا الهدف، إذ أجبر الجيش الإسرائيلي سكان منطقة وسط خان يونس على إخلاء منازلهم، وكذلك القصف المدفعي العشوائي على منطقة "حي الأمل" إضافة إلى تحذير سكان حي "البطن السمين" وسكان "المعسكر الغربي" وسكان "قيزان رشوان" التي تحيط بمجمّع ناصر الطبي من الجهة الجنوبية لمدينة خان يونس، وهذه التحذيرات مثيلة لما حصل مع سكان الشطر الغربي والبلدات والمدن الشرقية لمحافظة خان يونس.
إن مهاجمة "مركز الثقل" في مدينة خان يونس هي خطوة حاسمة للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، فنتائجها تحدد سير الحرب على القطاع، تمثل خان يونس تحدياً كبيراً نظراً لزيادة الكثافة السكانية والبنية التحتية الكبيرة في هذه المنطقة، كلما تقدم الجيش زادت التحديات والصعوبات التي يواجهها، فخان يونس لطالما كانت معقلاً صلباً للمقاومة، إذ استطاعت الصمود والثبات على مدى فترات طويلة، منذ انتفاضة الأقصى المباركة، وذلك يمثل تحدياً إضافياً لأي عملية عسكرية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.