لطالما كانت الأنفاق هي الهاجس الأكبر لدى قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي وقواته عند المواقع الحدودية وخلال المناورات البرية خوفاً وقلقاً من التعرضِ للقتلِ أو الأَسر، وأيقنت قيادة المقاومة الفلسطينية أهمية هذه الوسيلة ودورها في ترجيح كفة المستضعفين، فأقامت مشروعاً استراتيجياً طَوَّرَ لبنة البنية التحتية العسكرية للمقاومة وكَبُر إلى أن وصل إلى "مترو حماس".
سلَّطت إسرائيل الضوء على هذا المشروع الاستراتيجي، وسخَّرَت قدراتها الاستخبارية المختلفة لمحاولة بناء صورة تفصيلية عن هيكلية الأنفاق، بدءاً من فِرق الحفر وأدوات البناء إلى تحديد مسارات وخطوط الأنفاق، وأطلقت عمليتين رئيسيتين ضد أنفاق القطاع: الأولى خلال حرب "العصف المأكول"، عندما توغل الاحتلال برياً عام 2014 للقضاء على الأنفاق الهجومية رغم محدوديتها. والثانية خلال معركة "سيف القدس" عام 2021، عبر شن حملة جوية ضمن خدعةً فاشلة لم تنطلِ على قيادة المقاومة وجهازها الاستخباري، وذلك خلال معركة " سيف القدس".
تنوعت أساليب حفر الأنفاق وتطورت مع تطور الهدف على مرّ السنين؛ من أنفاق التهريب وصولاً إلى الأنفاق الهجومية، اكتسبت فيها المقاومة خبراتٍ عديدة، ساعدتها على بناء شبكة واسعة ومتشعبة من الأنفاق، في مشروعٍ استراتيجي.
يستعرض هذا المقال تطور وظهور الأنفاق في قطاع غزة، منذ أن استخدمها سكان غزة وسيلةً للتمرد على منعهم وحرمانهم من مجالهم الحيوي في سيناء ومصر، وصولاً إلى تحولها سلاحاً في مواجهة الاحتلال وتفوقه الجوي والناري.
تطور الأنفاق في قطاع غزة
نتيجة تطبيق اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل، رُسمت الحدود بين مصر وقطاع غزة الذي كان يخضع للاحتلال الإسرائيلي عام 1982، ففُصلت مدينة رفح إلى قسمين: رفح الفلسطينية ورفح المصرية، ومُزقت أوصال العائلات التي تسكن على امتداد المنطقة الحدودية، وقُطعت أرزاق بعض العائلات التي كانت تشتغل بالتجارة، وأهمها تجارة الذهب.
في العام نفسه، بدأت أولى عمليات التهريب من رفح المصرية إلى رفح الفلسطينية، من خلال قنوات الماء التي كانت قد أُنشئت مسبقاً أسفل المنطقة الحدودية، مقتصرةً حينها على الذهب والقطع الثمينة الصغيرة، ثم تطورت إلى حفر الأنفاق لتهريب البضائع بشكلها البدائي الذي يسمح بمرور شخص واحد زحفاً، وقد اكتشف الإسرائيليون النفق الأول عام 1983، واستمرت أنفاق التهريب على حالتها البدائية إلى بداية "انتفاضة الأقصى" عام 2000 التي كانت نقطة تحول في عمل أنفاق التهريب.
مع اشتداد المواجهة مع الاحتلال وزيادة الطلب على السلاح وذخائر، انخرط المهربون في تجارة الأسلحة وبيعها لفصائل المقاومة، وبعد انسحاب الإسرائيليين من غزة عام 2005 وحصار القطاع عام 2006، نشطت من جديد عمليات التهريب من خلال الأنفاق، واتسعت حتى تحولت من أنفاق صغيرة تملكها العائلات المحلية إلى مشاريع تجارية يتشارك فيها أصحاب رؤوس الأموال في القطاع، وضُخّت فيها أموال طائلة لتطوير الأنفاق وتوسيعها إلى أن وصلت إلى تهريب السيارات.
ظهر أول استخدام عسكري للأنفاق في قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2001، حينما فجَّرَت كتائب القسام موقع "ترميد" العسكري المقام على عمارة سكنية احتلها الجيش الإسرائيلي في المنطقة الحدودية بين مصر وقطاع غزة، وكان هناك بعض الاستخدامات قبلها داخل القطاع بشكل محدود؛ من خلال استخدام الأنفاق وسيلةً لتخزين الأسلحة والمواد المتفجرة.
ومع دخول "انتفاضة الأقصى" عامها الرابع نفّذت المقاومة الفلسطينية عمليتي نسف وتفجير باستخدام الأنفاق: عملية تفجير موقع "محفوظة" العسكري في شمال مدينة خان يونس التي نفّذتها كتائب القسام في يونيو/حزيران 2004، والأخرى عملية "براكين الغضب" بتفجير موقع "دورية الصحراء البدوية" العسكري داخل معبر رفح الحدودي، وقد نفّذتها كتائب القسام بالاشتراك مع صقور فتح في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.
كانت عملية "الوهم المتبدد" بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع هي التطور النوعي في الاستخدام العسكري للأنفاق، فقد أغارت المقاومة عبر عملية مشتركة خاضتها كتائب القسام وألوية الناصر وجيش الإسلام على موقع "كرم أبو سالم" العسكري من خلال نفق عابر للسياج الفاصل واختطاف الجندي جلعاد شاليط، ورغم نجاعة هذه العمليات فإنها ما زالت ضمن الإطار التكتيكي لاستخدام الأنفاق.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وانتشار الأنفاق الحدودية لتهريب البضائع عبر مصر، التي بلغ طول بعضها نحو 6 كيلومترات، تطورت أساليب الحفر والتصميم، فأُوجدت "الدشم"، وهي عبارة عن غرف صغيرة داخل خطوط الأنفاق تحتوي على محرّكين يعملان على الكهرباء، الأول لسحب "الشياطة" وهي قطعة بلاستيكية توضع عليها البضائع ليجري سحبها، والآخر لإرجاع الشياطة فارغة، وتتكرر هذه المهمة في كل دشمة على طول الخط. صُممت الأنفاق الطويلة بحيث تُحفر غرفة دشمة كل 350-500 متر، أو حسب تعرجات "الخط".
ثم ظهر تحدٍّ كبير وهو "تسفيق" النفق، الذي يتمثل في انهيار الخط من سقفه أو جوانبه، فلجأ صُناع الأنفاق إلى تبطين الخطوط، فاستخدموا الألواح الخشبية لتدعيم أسقف وجوانب النفق، ثم تطور الأمر إلى استخدام الإسمنت المسلح وصناعة قوالب بأشكال مختلفة.
وفي خطوط تهريب السيارات استخدموا الجسور الحديدية لتدعيم الأسقف والجوانب وبنوا المصاعد في فتحة بئر النفق، وصمموا شبكات كهربائية واتصالات سلكية للتواصل بين الدشمة والأخرى وبين البئر (مشغل المصعد)، وركّبوا إنارة داخلية وغيرها من الأساليب والتطويرات.
استثمر المهربون أموالاً طائلة في مشاريعهم على الحدود مع مصر، مما دعاهم إلى تنفيذ التطويرات آنفة الذكر التي استفادت منها المقاومة الفلسطينية، فكانت تجربة أنفاق التهريب غنية بالأفكار، نسختها المقاومة بصورتها المطورة إلى داخل القطاع، وبالأخص كتائب القسام التي أدخلت البُعد العسكري "التحت أرضي" بشكل كبير في خططها العسكرية، وبدأت في تحقيق رؤيتها الاستراتيجية.
وتنوعت الأنفاق التي أنشأتها تبعاً لاستخداماتها، وأهمها الأنفاق الهجومية التي تخترق السياج الفاصل مع إسرائيل والتي استخدمتها في حرب عام 2014 مثل عملية "ناحل عوز" الشهيرة، والأنفاق الدفاعية التي تمتدّ وتنتشر على طول المناطق المتاخمة للحافة مع إسرائيل والتي جرى تجهيزها بغرف وبنية تحتية مؤهلة للبقاء فترات طويلة لنصب الكمائن من خلالها.
وكذلك أنفاق القيادة والسيطرة التي تدير منها المعارك وتعقد فيها اجتماعاتها، فضلاً عن أنفاق لحفظ الأسرى من "إجراء هانيبال"، وكذلك دشنت أنفاقاً لمرابض المدفعية المختلفة من الهاون إلى الصاروخ تحمي الرماة وتُخفي لهيب فوهة المدفع عن أعين "الزنانات".
وأقامت أيضاً أنفاقاً للتصنيع العسكري ومختبرات لإنتاج المواد المتفجرة في باطن الأرض، وهي متصلة بخطوط أخرى للإمداد اللوجيستي لنقل الصواريخ والقذائف؛ لضمان استمرارية وحدات المدفعية بإطلاق النيران الصاروخيّة، كما بنت ما تُعرف بوصلات الأنفاق التي تسهّل حركة المقاومين وتخفيهم عن أعين عدوهم، وأخيراً الأنفاق البحرية التي تهدف إلى إيصال فرق الكوماندوز البحري التابعة لـ"القسام" إلى ساحل البحر، أو وحدات إطلاق الغواصات، لتقلل من زمن تعرضها لأنظمة الكشف البحرية والجوية.
الإنذار الذي أقلق منام الإسرائيليين.. إجراءات إسرائيل الدفاعية
في أكتوبر/تشرين الأول 2013، وفي يوم ماطر وغزير، فاضت مياه الأمطار عند السياج الفاصل مع قطاع غزة وأدت إلى انهيار كبير في التربة، فوجئت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي وصلت إلى المنطقة بظهور نفق ضخم ومتفرع بالقرب من كيبوتس "العين الثالثة"، يصل طول النفق إلى قرابة كيلومترين، منها مئات الأمتار داخل السياج الفاصل وبعمق يصل إلى 22 متراً.
هذه الصدفة البحتة أضاءت إنذار الطوارئ في أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، لتُحلل هذا النفق ومن ثم تدمّر الجزء الممتد في داخل القطاع والإبقاء على الجزء القريب من الكيبوتس مزاراً توفد إليه الشخصيات السياسية، حيث أحاطت المدخل الذي أنشأته للنفق بجدران خرسانية، وعُرف هذا الموقع بنفق "السريج" لقربه من موقع "السريج العسكري" شرق عبسان، وعلى أثر هذا الاكتشاف فرض الإسرائيليون حظراً على مواد وأدوات البناء الأولية مثل الإسمنت والحديد ومنعها من دخول القطاع إلى يومنا هذا.
لم يكن لدى الإسرائيليين الخبرة الكافية في التعامل مع الأنفاق قبيل اكتشاف نفق "السريج"، فوكّلوا هذه المهمة إلى وحدة "يهلوم" الهندسية الخاصة، التي بدورها درست النفق وقاست أبعاده الداخلية، وبعد عدة أيام اقتربت وحدة "يهلوم" ووحدة هندسية أخرى تابعة لفرقة غزة، من السياج مع القطاع وحفرت باستخدام آلة الحفر "المثقاب" للوصول إلى عمق النفق بجوار السياج.
ثم جلبت شاحنة "الأمولوسيا"، وهي شاحنة تحمل مادتين منفصلتين من المتفجرات السائلة تُحقنان داخل النفق، وعندما تمتزجان تكونان مادة متفجرة قوية تؤدي إلى تدمير النفق، كان هذا الاستخدام الأول لشاحنة "الأمولوسيا" التي طوّرها مسبقاً القسم التكنولوجي في ذراع البر الإسرائيلي خصيصاً لمحاربة أنفاق التهريب مع مصر.
وفي أثناء التجهيز لحقن المواد المتفجرة في نفق "السريج"، وقع انفجار "مجهول" أدى إلى إصابة 5 من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي بينهم الضابط المسؤول عن قسم الهندسة العسكرية في شعبة غزة. واستُشهد في الحدث نفسه 3 من مقاتلي كتائب القسام، وكانت "بوابة المجهول" هي العملية الغامضة التي أعلنت عنها كتائب القسام ضد وحدة الهندسة التي جاءت لتدمير النفق.
وحدات جديدة لمواجهة الأنفاق
أدى خطر الأنفاق المستمر إلى إنشاء الجيش الإسرائيلي وحدة جديدة أطلق عليها "المختبر التكنولوجي لاكتشاف وتحديد الأنفاق"، وهي وحدة تكنولوجية في المقام الأول، مخصصة فقط لاكتشاف وتحديد الأنفاق تحت الأرض، وهناك مختبران: الأول في القيادة العسكرية الجنوبية يتبع لفرقة "غزة" بالتعاون مع فيلق الهندسة القتالية، والآخر في القيادة العسكرية الجنوبية يتبع لفرقة "الجليل" أيضاً بالتعاون مع فيلق الهندسة القتالية.
ويضم المختبر عدداً من الخبراء والمهندسين والضباط من مختلف المجالات الذين يحللون المعلومات الاستخبارية والتكنولوجية التي تجمعها شعبة الاستخبارات وتقنيات الاستشعار والجنود في الميدان والأعمال الهندسية الاستباقية، ومن خلالها يكتشفون الأنفاق والفراغات تحت الأرض. أُعلن المختبر الجنوبي عام 2016، والمختبر الشمالي في ديسمبر/كانون الأول 2018 بعد إطلاق عملية "درع الشمال" لتحديد وتحييد الأنفاق التي حفرها حزب الله انطلاقاً من جنوب لبنان.
يحلل المختبر المعلومات التي جمعها الجنود في الميدان والمعلومات التي جُمعت بواسطة تقنيات الاستشعار، بالإضافة إلى تحليل المعلومات المقدمة من الأقسام المختلفة، كما يرسم المختبر الخرائط التي تناسب النفق المحدد حسب نوع التربة والتضاريس، وتنفّذ الوحدات الهندسية أعمالَ الحفريات والحفر العميق باستخدام الجرافات والحفارات وآلة الحفر "المثقاب"، من خلال هذه الأعمال تُجمع العينات والمعلومات عن الأرض وما تحتها، وتُنقل إلى المختبر لتحليلها.
إضافةً إلى ذلك، فإن فريق الهندسة القتالية يكتشف فتحات الأنفاق، سواء عن طريق الصدفة أو عن طريق المبادرة وفقاً للمعلومات الواردة من المختبر، كما ينفّذ أعمال الحفر وفقاً لإرشادات المختبر التكنولوجي، وتخطط الوحدة الأنفاق المكتشَفة وتحقق فيها وتنقل المعلومات إلى المختبر لتحليلها ودراستها وإنتاج المعلومات الاستخبارية.
وإلى جانب مختبر الأنفاق، فإن فصيل "ابن عرس" التابع لوحدة "يهلوم" الهندسية هو المكلف بالتعامل مع الأنفاق بعد اكتشافها وتحديدها. و"ابن عرس" أو "سَمور" بالعبرية هي وحدة فرعية بُنيت بالأساس على "فريق الأنفاق" الذي شُكِّل للقضاء على أنفاق محور "فيلادلفيا" في الشريط الحدودي مع مصر.
يَعدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي فصيل "ابن عرس" تمثيلاً للبُعد العسكري التحت أرضي في مواجهة أنفاق المقاومة الفلسطينية. وكانت المهمة الرئيسية في بداية تشكيل "ابن عرس"، تتمثل في تحديد مواقع ومخابئ الأسلحة تحت الأرض في الضفة الغربية، ومن ثم تطورت مهامه إلى محاربة أنفاق المقاومة، وإلى جانب عمله بتدمير الأنفاق، فهو يدرب المقاتلين على الحرب التحت أرضية وأساليب القتال داخل الأنفاق.
وسبق أن أنشأت وحدة "يهلوم" نموذجاً محاكياً لأنفاق "القسام" إلى جوار موقع "أميتاي" العسكري، واتخذت أيضاً من أحد أنفاق المقاومة المكتشفة بالقرب معبر "كرم أبو سالم" ميداناً لتدريب جنود الاحتلال، وكانت الكتائب الهندسية النظامية التابعة للألوية المدرعة تتدرب بشكل مستمر في هذه المنشأة. وأيضاً توجد منشأة أخرى في صحراء النقب لإجراء التدريبات الحية باستخدام المتفجرات.
ضاق جيش الاحتلال الإسرائيلي ذرعاً بخطوط الأنفاق المتسللة أسفل السياج الفاصل مع القطاع، واستُنزفت القوات الهندسية التابعة لفرقة غزة التي تعمل مع مختبر الأنفاق الجنوبي في عمليات الحفر الكثيرة والمتواصلة للبحث عن الأنفاق إلى جوار السياج، وكانت الاكتشافات المستمرة لخطوط الأنفاق العابرة أسفل السياج الفاصل تتقاطع مع أهم استخلاصات جيش الاحتلال للحرب التي شنها على القطاع عام 2014، ألا وهي بناء جدار تحت أرضي لمنع حفر الأنفاق أسفل السياج الفاصل.
وفي يونيو/حزيران 2016، قرّر الإسرائيليون المضي في مشروع بناء جدار خرساني تحت أرضي على طول السياج مع القطاع، الذي يبلغ 64 كيلومتراً، وفي ديسمبر/كانون الأول 2021 انتهى جيش الاحتلال من عمليات الحفر وبناء الجدار الأرضي الذي وصل عمقه في بعض المناطق مع غزة إلى 70 متراً.
وقد زوّدت شركة "إلبيت" للصناعات العسكرية الجدار التحت أرضي بأنواع مختلفة من الحساسات والجيفونات لاكتشاف محاولات اختراقه وعمليات الحفر بالقرب منه، وربطت هذه الحساسات بأنظمة القيادة والسيطرة التابعة لغرف المراقبة في فرقة غزة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.