تابعنا
التحول الكبير والمؤثر في معارك أم درمان جرى منتصف الشهر الماضي حين التحم الجيش مع أكبر قاعدتين عسكريتين فى أم درمان (كررى، والمهندسين)، وفك الحصار عن سلاح المهندسين، مما دفع بقوة كبيرة ومؤثرة إلى ساحة المعارك كانت محاصَرة طيلة عشرة أشهر.

الموقع الجغرافي لمدينة أم درمان إضافةً إلى رمزيتها التاريخية، عاملان مهمّان لتقييم أهمية المعارك المستعرة التي تدور رحاها الآن، إذ تمثل أم درمان العاصمة الوطنية التي ترتبط عند السودانيين بكبرى ثوراتهم في التاريخ الحديث المعروفة بـ"الثورة المهدية" التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي.

تتصل حدود أم درمان (740 كيلومتراً مربعاً) جغرافياً مع أكثر من أربع ولايات سودانية؛ منها الشمالية ونهر النيل، ومن الجنوب الغربي ولاية شمال كردفان، ومن الناحية الجنوبية ولاية النيل الأبيض، وهي حدود مفتوحة ومنبسطة من دون عوائق في الاتجاهات كافة، على أن حدودها الغربية مع كردفان ودارفور هي الأهم والأكثر تأثيراً في مسار الحرب القائمة.

هاتان الميزتان جعلتا أم درمان تصعد في قائمة أولويات المناطق التي ركز الجيش على استعادتها بعد اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل/نيسان 2023.

تكمن أهمية أم درمان الاستراتيجية خلال الحرب الآن، في أنها تمثل بوابة الإمداد الرئيسية للسلاح والمؤن القادمة من ولايات الغرب التي تمثل المحاضن الرئيسية لقوات الدعم السريع، إضافةً إلى الحدود المفتوحة للإمداد الخارجي من الدول المجاورة للسودان التي تشهد تدفقاً للسلاح، بالتحديد من تشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى.

التحول الكبير والمؤثر في معارك أم درمان جرى منتصف الشهر الماضي حين التحم الجيش مع أكبر قاعدتين عسكريتين فى أم درمان (كررى، والمهندسين)، وفك الحصار عن سلاح المهندسين، مما دفع بقوة كبيرة ومؤثرة إلى ساحة المعارك كانت محاصَرة طيلة عشرة أشهر.

المعارك التي تدور الآن للسيطرة على أم درمان تهدف إلى قطع الإمدادات التي تُغذي ساحات المعارك في كل ولاية الخرطوم، فإذا تمكنت القوات المسلحة من استعادة كل مناطق أم درمان فإن ذلك يعني خنقاً بطيئاً لقوات الدعم السريع المتمركزة حالياً شرقاً على ناحية مجرى نهر النيل، وغرباً على حدودها الغربية.

بسيطرة الجيش على طرق الإمداد ستجد قوات الدعم السريع نفسها محاصَرة وخياراتها محدودة؛ فإمَّا الاستسلام وإمَّا القتال من دون أي عون خارجي. مما يعني هزيمتها، خصوصاً أن تكتيكات الجيش استهدفت منذ بداية الحرب مقدرات قوات الدعم السريع قبل خوض أي معارك كبرى معها.

تلك التكتيكات التي استُخدمت خلال الأشهر العشرة الماضية، وهي عمر الحرب، أسهمت في إضعاف قوات الدعم السريع بدرجة كبيرة، عبر تقليص أعداد المقاتلين المدربين، وتدمير المئات من العربات القتالية، وتحديداً "التاتشرات" وهي عربات قتالية ذات دفع رباعي تحمل على ظهرها مقاتلين وتتمتع بكثافة نارية عالية، واستخدمتها قوات الدعم السريع بفاعلية في حربها ضد الجيش السوداني.

من الدفاع إلى الهجوم

اتّبع الجيش الأسلوب الدفاعي البحت في الفترة الأولى من الحرب، مما أدى إلى خفض قوة الجسم الرئيسي لقواته، في ظل استعانة قوات الدعم السريع بمقاتلين أجانب من خارج السودان، وتحديداً من دول غرب إفريقيا، إضافةً إلى اتّباع أسلوب الفزع من القبائل الموالية له، وتلك كانت المرحلة الأولى من مراحل الحرب.

الآن بعد إضعاف القوات الرئيسية لقوات الدعم السريع وتمكُّن الجيش من السيطرة على طريق الإمداد على حدود أم درمان، سيتبقى لقوات الدعم السريع خط إمداد واحد يرتبط بالخرطوم، وهو جسر جبل أولياء الذي يربط المناطق الغربية لأم درمان بالخرطوم، وهو الطريق الذي لا يزال مفتوحاً ويُستخدم في نقل المؤن.

لكن من ناحية فنية -وفق خبراء- فإن جسر جبل أولياء بحالته الراهنة لا يتحمل مرور شاحنات ثقيلة تحمل الأسلحة والمعونات، وفوق ذلك فإنه يظل تحت رحمة مدفعية ومُسيرات وطيران الجيش السوداني في أي لحظة، وقد جرى استهدافه من الطيران الحربي أكثر من مرة.

نتائج المعارك في أم درمان ستُلقي بظلالها على كل مسارات الحرب العسكرية والسياسية؛ فمن الناحية العسكرية، بالنسبة إلى الجيش فإن الانتصار في أم درمان سيمكِّن قواته المنتشرة على تخوم منطقة الخرطوم بحري والجزيرة، من التحرك بشكل سريع تجاه أهدافها المتمثلة في إبعاد قوات الدعم السريع عن كامل منطقة بحري، ثالث كبرى مدن العاصمة القومية الخرطوم، إضافةً إلى استعادة مدينة ود مدني، ومن ثَمّ الانطلاق إلى محيطها للتعامل مع عشرات القرى التي تنتشر حول مدينة ود مدني، التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

تشير الخريطة العسكرية الآن إلى أن أغلب قوات الدعم السريع في أم درمان محاصَرة في الصالحة، غرب المدينة، ومناطق أم درمان القديمة في شرقها، وفي ظل عدم وجود إمدادات متوقَّعة لها فإن هزيمتها مسألة وقت، حسب تقارير عسكرية، وسيتمكن الجيش في الخطوة التالية من التقدم إلى مساحات أوسع وربما خارج منطقة أم درمان، إذ يمكن للقوات المتمركزة الآن فى منطقة المهندسين غرب أم درمان أن تتحرك صوب منطقة الخرطوم وسط، عبر جسر منطقة الفتيحاب، لفتح الطريق وفك الحصار عن القيادة العامة لقوات الجيش وسط الخرطوم، التي ظلت محاصَرة منذ بدء الحرب.

بالنسبة إلى قوات الدعم السريع، فإن صمودها في معارك أم درمان سيتيح لها فرصة كبرى للمناورات العسكرية مع إبقاء طرق إمداداتها مفتوحة، وذلك سيُطيل أمد الحرب في كل السودان.

لكنَّ ذلك لن يؤدي إلى انتصار كبير على الجيش السوداني، فلا يزال الجيش متماسكاً يحتفظ بقواته في 12 فرقة عسكرية منتشرة فى أكثر من 12 ولاية، فضلاً عن الدعم الشعبي الذي تلقاه مؤخراً والذي يمده بمخزون كبير من المقاتلين الذين استُنفروا ودُربوا للقتال مع الجيش، إضافةً إلى دعم كبير تلقاه الجيش من الحركات المسلحة المشاركة في الحكومة بعد أن تخلَّت عن الحياد و انخرطت فى أنشطة الحرب مع الجيش ودفعت بآلاف المقاتلين.

في ظلال السياسة

جرت معارك أم درمان المستمرة في ظل حراك سياسي ضعيف بعد توقف مسار المفاوضات تماماً في منبر جدة الذي جرى تأسيسه برعاية أمريكية-سعودية، لكنه عجز عن تقديم حلول عملية تسهم في وقف الحرب، بل إن مخرجاته على محدوديتها لم تجد مَن ينفّذها على أرض الواقع.

يطالب الجيش في أي منبر مقترح للمفاوضات بأن تكون قرارات منبر جدة واتفاق العشرين من مايو/أيار 2023، هما الأساس والمرجعية لأي تفاوض مستقبلي مع قوات الدعم السريع، ويُلزم اتفاق جدة خروج قوات الدعم السريع من المناطق السكنية والأعيان المدنية إلى أماكن محددة وإخلاء المدن ليكون الطريق سالكاً لبحث مستقبل تلك القوات بالدمج أو التسريح وفق رؤية الجيش.

تترتب على معارك أم درمان بلا شك نتائج سياسية فى غاية الأهمية، خصوصاً بعد تسرب أنباء عن قرب انعقاد جولة جديدة من مفاوضات جدة خلال شهر أبريل/نيسان المقبل.

سيصبح موقف المنتصر في معارك أم درمان أقوى في أي مفاوضات قادمة لأنها تعد حاسمة في كل مسارات الحرب داخل الخرطوم وخارجها، لذا نرى الآن أن الجيش السوداني دفع بكل ثقله لحسم تلك المعارك، فيما يعمل بمجهود أقل في كلٍّ من منطقتَي الخرطوم ومناطق الخرطوم بحري، ثالثة كبرى المدن السودانية.

معارك أم درمان المستمرة منذ عشرة أشهر تشي بأن الخيار المتاح الآن في ظل توقف الجهود الدولية لوقف الحرب وفي أعقاب فشل مبادرتي "إيقاد" والاتحاد الإفريقي، هو الحسم العسكري.

على المستوى السياسي، ظل مجلس السيادة وعبر رئيسه وأعضائه يرددون أنه لا حديث عن أي عملية سياسية أو النظر في أي مبادرات سياسية عن مستقبل الحكم إلا بعد طي ملف الحرب تماماً، ولذا بدا أن الحراك السياسي الخارجي للدولة يستهدف بشكل أساسي دعم المجهود الحربي من ناحية، ومن ناحية أخرى وضع كل من يعنيهم أمر السودان في صورة ما يجري تحديداً، خصوصاً أن الرسالة الإعلامية للجيش تتسم بضعف بالغ.

أما التحركات فى المسار السياسي الذي ترعاه حالياً ما عُرفت بتنسيقية القوى المدنية (تقدم)، فيُنظر إليه على نطاق واسع بشكوك كبيرة، إذ إن علاقة تلك القوى المدنية بالدعم السريع لم تعد خافية بعد توقيع اتفاق بينهما في أديس أبابا نهاية العام الماضي، وأصبح يُنظر إليها على أنها جناح سياسي لها.

أما حراك القوى السياسية المدنية الأخرى في الداخل فيتسم بالضعف وعدم التأثير بسبب ضعف المكونات المدنية داخل أكبر كتلة سياسية (الكتلة الديمقراطية) وعدم توفر رؤية متماسكة لها، إضافة إلى تشرذمها وانقساماتها المستمرة.

سياسياً، فإن انتصار أحد الطرفين (الجيش أو الدعم السريع) في معارك أم درمان سيجعل موقفه أقوى في المفاوضات المقبلة، خصوصاً أن القوى الإقليمية والدولية تتجه نحو حسم الملف السوداني بعد أن طال أمد الحرب، فالضغوط الدولية من ناحية والانتصارات التي يحققها أيٌّ من الطرفين من ناحية أخرى ستشكّلان عاملاً حاسماً في المفاوضات المقبلة التي يُنتظر أن تليها مفاوضات سياسية تضع خريطة طريق لسودان ما بعد الحرب، وهذا كله مرهون بنتائج معركة أم درمان التي نحن على أبواب نهاياتها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً