مع الدقائق الأولى لانتشار الخبر على منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات واتساب، ذهبت أصابع الاتهام مباشرة إلى الجماعات المسلَّحة التابعة للمليشيات المقرّبة من إيران. والسبب في ذلك ليس مجرد التحامل على هذه المليشيات أو محاولة تعليق المشكلة في رقبتها بشكل اعتباطي، وإنما حوادث مماثلة سابقة جرت خلال العامين الماضيين، استُخدمت فيها صواريخ الكاتيوشا أو المسيّرات المفخّخة لاستهداف السفارة الأمريكية داخل المنطقة الخضراء، أو المعسكرات التي فيها الخبراء الأمنيون الأمريكان، ولم تكُن المليشيات في الحوادث السابقة تُخفي تبنّيها لهذه الحوادث، وتفخر بأنها من أعمال "المقاومة" المشروعة.
لم يثبت أن طرفاً سياسياً أو مسلّحاً، داخلياً أو خارجياً، تبنّى أعمالاً مشابهة خلال السنوات الماضية، ما عدا المجموعات المسلّحة القريبة من إيران. وهذا بالنسبة إلى كثير من المراقبين ليس أمراً غامضاً أو يحتاج إلى تدقيق كثير.
سارعت الحكومة والأطراف السياسية العراقية المختلفة ثم الجهات الدولية إلى شجب هذا الحادث الخطير خلال الأيام اللاحقة، أما المليشيات والجهات السياسية الراعية لها فقد تَطوَّر موقفها بشكل متدرّج، فهي في البداية سخرت من الحادثة وادّعت أنها مزيَّفة، وأن الكاظمي وفريقه هم من اختلق الحادثة. ثم مع تزايد الأدلة على وقوع الحادثة وتصاعد موجة الاحتجاج عليها غيّرت هذه الأطراف لهجتها، وانخرطت في الجو العام للإدانة، ولكنها سارعت بنسبة الحادثة إلى طرف خارجي، أمريكي أو إسرائيلي، وهذا ما أكّده زعيم ائتلاف الفتح هادي العامري في كلمة ألقاها في موقع اعتصام أنصاره، المحتجين على نتائج الانتخابات، أمام بوابات المنطقة الخضراء في 10 نوفمبر/تشرين الثاني، فهو يرى حسب قوله أن أطرافاً خارجية تريد اشعال حربٍ "شيعية-شيعية".
جاءت هذه الكلمة بعد يوم من اجتماع الأطراف الشيعية (من دون الصدر) مع الكاظمي، بالاضافة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح، للتباحث حول حادثة الاستهداف. ويشير بعض التسريبات إلى أن الكاظمي واجه قيادات الفتح الراعية للمليشيات بأدلة قوية على تورّط مجموعة محدّدة بهذا الاستهداف، وأنه ماضٍ بإجراء التحقيقات اللازمة، رغم تحفّظه على إعلان نتائج التحقيق بشكل مبكّر، وعدم رغبته بالتصعيد ضد هذا الطرف المليشياوي المتهَم.
ما عقّد الصورة أن إيران، التي يتم الحديث عنها غالباً باعتبارها الراعية الإقليمية للمليشيات والمستفيدة من عملها داخل العراق، أدانت بشكل رسمي الحادثة واعتبرتها عملاً خطيراً يهدد أمن البلاد.
الشيء المؤكد أن هذه الحادثة أضافت دليلاً جديداً على تشرذم المليشيات وأنها لا تتصرّف وفق سياسة واحدة، وأن سيطرة الراعي الإيراني على نشاطاتها ليست أمراً محسوماً، وأن بينها تنافساً داخلياً، ومزايدة على المواقف، وكان من نتائج هذا التفكك خسارتها ما يقرب من نصف المقاعد البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، والسبب هو نزول أكثر من مرشّح من مكوّنات تحالف الفتح في الدائرة الواحدة، ما شتّت الأصوات، ولم يصل بالتالي أي من المرشحين إلى العتبة الانتخابية المطلوبة للحصول على المقعد في هذه الدائرة أو تلك. ولو كان جهدهم منظماً -كالتيار الصدري مثلاً- فلربما حصلوا على ما يقرب من 35 مقعداً، وهو ما يعادل مجموع الأصوات الكلّي التي حصل عليها تحالف الفتح مع حركة حقوق (الجناح السياسي لكتائب حزب الله).
إن هذا التشتّت، كما يرى كثير من المراقبين، تَكشَّف بعد غياب أبو مهدي المهندس، بعد اغتياله مع قاسم سليماني قائد فليق القدس الإيراني، في الاستهداف الأمريكي قرب مطار بغداد مطلع 2020.
هذا الغياب للرجلين الأكثر نفوذاً على المليشيات العراقية، لم يعوّضه إسماعيل قآني وريث سليماني في عمله على رأس فيلق القدس الإيراني، ولا الزعامات في مؤسسة الحشد الشعبي، ولا شخصيات ذات تاريخ سياسي مثل زعيم ائتلاف الفتح هادي العامري. وظلّت القيادات السياسية مجبرة على محاولة لملمة التبعثر في المشهد والظهور بمظهر الجبهة الموحدة، رغم أن الحوادث المتكرّرة تثبت تفكّك هذه الجبهة وتبعثُر مكوّناتها.
إن قيادات الفتح تفهم هذه الحقيقة المرّة على ما يبدو، أما التظاهرات التي أخرجوا لها مجنّدين في الحشد الشعبي، بشكل إجباري على الأغلب، فليست في جوهرها للمطالبة بالعدّ والفرز اليدوي للأصوات أو التشكيك بمصداقية مفوضية الانتخابات وعملها، كما هو معلن، وإنما للضغط السياسي على الأطراف الأخرى، وأهمها التيار الصدري، الفائز الأول بالانتخابات، لإجبارهم على إنجاز صفقة مرضية في تشكيل الحكومة القادمة، وحماية المكاسب السياسية والمالية الحالية التي يتمتعون بها، وأن لا تتأثر بالأحجام الانتخابية. والنقطة الأكثر حساسية التي يدافعون عنها هي مواقعهم في المناصب العليا في هيئة الحشد الشعبي.
إن الجزء الأكبر من قيادات الفتح، مثلما يمكن أن نخمّن، فوجئوا بحادثة توجيه صواريخ أو مسيّرات مفخّخة بقصد اغتيال رئيس الوزراء الكاظمي، لأن هذا الحادث سيحرجهم ويضعهم في موضع الاتهام، ويؤلّب الرأي العام عليهم أكثر. وهو ما حدث فعلاً، مع زيادة في التعاطف الشعبي والإقليمي والدولي مع الكاظمي، في الوقت الذي تفكر فيه قيادات الفتح بالإطاحة بالكاظمي، ومنعه من تولي دورة رئاسية ثانية.
هناك إشارات كثيرة إلى أن الكاظمي لن يعلن في القريب عن نتائج التحقيقات بحادثة استهدافه، على الرغم من معرفته بالجهة التي استهدفته، فقد قال ذلك ثلاث مرّات في الكلمة القصيرة في اجتماع مجلس الوزراء في اليوم التالي للحادثة. وربما سيحاول الاستفادة من التهديد بإعلان المتهمين كورقة تفاوض مع كتلة الفتح والأطراف المقرّبة منها، لفرض توليه رئاسة الوزراء لدورة ثانية كأمر واقع.
خصوصاً حين ننتبه للموقف المتصلّب لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، تجاه إمكانية أن يتنازل عن استحقاق كتلته البرلمانية عن حقّها كفائز أول في الانتخابات، وهو أمرٌ يحدث للمرّة الثانية، ولكنه هذه المرّة يختلف قليلاً عن المرّة الأولى، في انتخابات 2018. ففي تلك الانتخابات كانت الأحجام متقاربة بين كتلة "سائرون" الصدرية وكتلة "الفتح"، وأُجبرَ الصدر على الدخول في تحالف معها يناصف المناصب العليا، بل تحوّل اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء، كمرشح تسوية بين الكتلتين الكبيرتين، إلى ما يشبه النصر لكتلة الفتح، وكانت سياسات عبد المهدي في المجمل تميل إلى تنفيذ رؤية كتلة الفتح.
هذه المرّة المسافة شاسعة، فأين الـ72 أو الـ73 مقعداً صدرياً من 17 مقعداً فتحاوياً؟! وحتى لو فرض العرف السياسي في نهاية المطاف أن يدخل الجميع في تقاسم المناصب، وأن يكون الصدر مع الفتح ضمن "تحالف شيعي" مفترض إزاء تحالفات السنّة والكرد، فإنه لن يقبل مناصفة السلطة مع الفتح، وسيصرّ، كما هو معلن حتى الآن، على تثبيت الأوزان السياسية كما أنتجتها الانتخابات، لا التهديدات والتخويف بالسلاح، فهو الآخر يملك السلاح والشارع.
وهنا يكون الفتح أمام خيارين أحلاهما مر: إما الرضوخ لإرادة الصدر في ترشيح شخصية صدرية لرئاسة الوزراء، ما يعني تعاظم سلطة الصدر، وسيطرته على مفاصل حساسة في الدولة، ومنها بالتأكيد هيئة الحشد الشعبي.
وإما القبول بمرشح تسوية، ليس صدرياً ولا فتحاوياً، وهنا لن يقبل الصدر بمرشح تسوية غير الكاظمي. وسيجد زعماء الفتح أن رجلاً يعرفونه ويعرفون مزاجه مثل الكاظمي، أهون من شخص لا يعرفونه. ويمكن أن يضمنوا مع الكاظمي مصالح لن يحصلوا عليها مع مرشّح صدري "قحّ".
بالمجمل يبدو المسار العام لكل تداعيات الأحداث منذ يوم انتخابات 10 أكتوبر/تشرين الأول إلى اليوم، كأنه نوعٌ من الترويض المتدرّج لغضب ومفاجأة المليشيات وغطائها السياسي "كتلة الفتح"، وإجبارها بلا مواجهة عنيفة، على القبول بنتائج الانتخابات، التي باركها الجميع، حتى إيران، والاعتراف بالواقع الجديد الذي أفرزته الانتخابات، غير البعيد على آثار الحراك الاحتجاجي التشريني الذي كان في تياره الأعمّ ضد المليشيات وهيمنتها على العراق، وأن عليها، هذه المليشات، أن تعترف بأن ما بعد أكتوبر/تشرين الأول 2019 ليس مثل ما قبله.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.