تسعة أشهر قضاها فيلتمان متنقلاً بين واشنطن ودول المنطقة، وفي مقدمتها إثيوبيا التي تشهد حرباً وصف قرار لجو بايدن استمرارها بأنه "يشكّل تهديداً غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة".
كانت الحرب الإثيوبية، والتوتر الحدودي الإثيوبي السوداني، وملف سد النهضة، أولى حلقات اللهب التي أُلقيَت بين يدَي فيلتمان، لتنتهي الأشهر التسعة، لا بالإخفاق في معالجة هذه الأزمات، بل أيضاً بالمزيد من تآكل الرصيد الاستراتيجي لواشنطن بالمنطقة.
إثيوبيا والمسار المتعثر
جاء تعيين جيفري فيلتمان في أبريل/نيسان 2021 مبعوثاً خاصاً للرئيس الأمريكي إلى القرن الإفريقي لتجاوز العقبات البيروقراطية، وخلق آلية مباشرة بين المبعوث والرئاسة دون المرور بأروقة الإدارات الأمريكية، في تجسيد للأهمية التي توليها واشنطن لملفات المنطقة، والرغبة في تفكيك الأزمة الإثيوبية بدفع أطرافها إلى تسويات سياسية مرضية.
وخلافاً لبعض النجاحات على المستوى الإغاثي كانت حصيلة تسعة أشهر إخفاقاً أمريكياً في تحقيق الهدف الرئيسي، وفشل مقاربة فيلتمان التي تميزت بممارسة الضغوط المستمرة على الحكومة الإثيوبية أدى إلى توتر غير مسبوق بين واشنطن وأديس أبابا.
هذا الفشل لم ينعكس على المستوى الرسمي وحده بل على المستوى الشعبي أيضاً، إذ نشأ مزاج عام في القواعد الشعبية الداعمة للحكومة الإثيوبية معادٍ لواشنطن، ويعتبر أن الولايات المتحدة وحلفاءها يعملون على صوملة أو لبننة بلادهم.
والمفارقة أن الإخفاق الأمريكي في تفكيك الأزمة الإثيوبية أدّى إلى وقوع المحظور الذي عملت واشنطن طوال السنوات الماضية على تفاديه، فقد وقّعت إثيوبيا اتفاقية عسكرية مع روسيا (2021)، كما اتفقت مع بكين في مارس/آذار الماضي على إنشاء آلية لحماية الاستثمارات المشتركة بينهما ضمن مبادرة الحزام والطريق بإثيوبيا.
كذلك فعلت جارتها إريتريا التي تعرضت لعقوبات أوروبية وأمريكية لانخراطها في الحرب الأثيوبية، إذ وقّعت مع بكين اتفاقيات متعلقة بتعاونها ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبينما أعلن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي سعادته بارتقاء علاقات بلاده مع بكين إلى "الشراكة الاستراتيجية"، صرحت الأخيرة بدعم آبي أحمد ورفضها تدخل القوى الخارجية سواء في إثيوبيا أو إريتريا.
وممّا زاد الصورة قتامة في واشنطن الأنباء المتداولة حول شراء إثيوبيا طائرات مسيَّرة إيرانية، بما يفتح لطهران باب العودة إلى القرن الإفريقي من جديد كلاعب يبحث عن دور، ويملك الأوراق اللازمة للقيام به.
انقلاب في الخرطوم وانفجار في واشنطن
وبينما كان فيلتمان منهمكاً في إثيوبيا انفجرت في الجار السودان أزمة أخرى مع قيادة الجيش انقلاباً عسكرياً في 25 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وهو ما لم تنجح جهود فيلتمان والإدارة الأمريكية لا في الحيلولة دون وقوعه رغم المؤشرات في الساحة السودانية، ولا في حماية "أصدقاء" واشنطن في الخرطوم، بعد فض الشراكة بين العسكريين والمدنيين الذين قامت الولايات المتحدة بمساندتهم تحت غطاء دعم الانتقال الديمقراطي في السودان.
وبينما لم تفلح كل المحاولات الأمريكية لدفع الجيش السوداني إلى تغيير موقفه، كان أقصى ما وصلت إليه اتفاق الشراكة الموقَّع بين عبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي فقد قيمته مع استقالة الأخير في الثاني من هذا الشهر.
الملفّ السوداني أدى إلى انفجار خلاف بين فيلتمان ومساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية مولي في، التي تدعو إلى اتباع سياسة تصالحية أكثر مع الجيش السوداني، خلافاً لنهج فيلتمان القائم على خطوات أكثر "خشونة".
ويكشف هذا الخلاف أزمة أعمق في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة بين المراكز الرئيسية لصناعة القرار في واشنطن، ومن ذلك رؤية مولي في أن تخطيط هذه السياسة يجب أن يوكل إلى موظفي الخارجية الخبراء بشؤون المناطق التي يعملون فيها، لا إلى المبعوثين، ويبدو أن ظلال هذا الخلاف انعكست في قرار غياب فيلتمان عن منصبه.
وبينما يترسّخ النفوذ الصيني في جيبوتي، يعيش الصومال على صفيح ساخن بين صراعات الأطراف السياسية فيه وتحركات المجموعات المسلحة، في حين يلاحظ الغياب الأمريكي عن إحداث أي تغييرات في المشهد الصومالي، وعلى رأسها تفكيك تحالف مقديشو مع أسمرة وأديس أبابا الذي كان أحد أهداف فيلتمان منذ البداية.
وفي هذا الإطار فإن الانسحاب الأمريكي لسنوات طويلة من الانخراط المباشر في الشؤون الإفريقية والاعتماد على الحلفاء الإقليميين لإدارة ملفاتها لم يوفر الفرصة للخصوم التقليديين كروسيا والصين للنفاذ داخل القارة، ولكنه أيضاً أفسح المجال لهؤلاء الحلفاء للحصول على قاعدة نفوذ حتى على حساب الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ويتبين هذا من "حضور ومساهمة" العديد من القوى الشرق الأوسطية في ملفات المنطقة الحساسة، وهو ما ساهم في تعقيد مهمة فيلتمان ووصولها إلى المآل الذي بلغته.
لماذا ساترفيلد؟
يمكن القول إن ساترفيلد اختير خلفاً لفيلتمان لمجموعة من العوامل، لعلّ من أهمّها خبرته في التعامل مع مناطق تشهد تهديدات متنوعة، منها الصراعات العسكرية، إذ كان سفيراً في لبنان (1998-2001) أواخر سنوات الاحتلال الإسرائيلي، وخدم في العراق في أكثر من منصب، متزامناً مع تصاعد المقاومة ضد الأمريكيين وكذلك ما سُمي بالحرب الطائفية العراقية، كما كان مستشاراً لوزير الخارجية للشأن الليبي (2014).
ولساترفيلد خبرة مع العديد من الدول المؤثرة في أوضاع القرن الإفريقي، فكان سفيراً في تركيا ذات النفوذ الكبير في الصومال، والمرتبطة كذلك بالصراع الإثيوبي من ناحية التسليح، كما عمل في مصر سفيراً (2013-2014)، ومديراً عامّاً للقوة متعددة الجنسيات والمراقبين المسؤولة عن حفظ السلام في سيناء، وللقاهرة علاقة وثيقة بمجريات الأحداث في السودان، كما أنها من البلدان المتأثرة بشكل مباشر بما يجري في إثيوبيا.
ورغم عمله في عدة عواصم إفريقية فإن تجربته الشرق الأوسطية هي الأبرز في مسيرته المهنية، إذ عمل مستشاراً لشؤون الشرق الأدنى لمجلس الأمن القومي الأمريكي ولوزير الخارجية الأمريكي، فاختياره يوضح إدراك واشنطن لترابط ملفات القرن الإفريقي المتشابكة مع قوى الشرق الأوسط، وضرورة الاستفادة من خبرة ساترفيلد العميقة في تلك المنطقة.
في خطاب ترشيحه سفيراً في تركيا (2019) أمام لجنة من الكونغرس في لحظة بالغة التوتر مع أنقرة، أورد ساترفيلد نقاط خلاف إدارة ترامب مع تركيا، لكنه أضاف في الخلاصة نقاطاً تؤشّر إلى المتوقع من سياسته تجاه الملفات المنوطة به ولا سيما إثيوبيا، إذ أكد أن تركيا حليف لا بديل منه لواشنطن في موقع جيوستراتيجي معقد، وأن على بلاده العمل معها لمواجهة التهديدات النابعة من روسيا وإيران وغيرهما. ولا ريب أن نجاحه في تخفيف حدة الأزمة مع أنقرة ساهم في تعيينه لإدارة أزمة مشابهة.
وعلى ما يبدو فإن الإدارة الأمريكية في صدد جردة حساب لسياساتها في القرن الإفريقي، ولعل العبء الأكبر الواقع على عاتق ساترفيلد ومولي في الآن نفسه هو بناء مقاربة لوقف النزيف الاستراتيجي الأمريكي أولاً، في ظروف بالغة التعقيد وبيئة تعجّ بالمنافسين وبالكثير من فوهات البنادق.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.