أثار مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني في طهران بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2022 على يد ما يُعرَف بشرطة الأخلاق أو دوريات الإرشاد، بذريعة عدم التزامها الحجاب الإسلامي، موجة من الغضب والاحتجاجات، تعدّت حدود ردّة الفعل التي اعتاد الشارع الإيراني إظهارها في مناسبات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة.
واتسعت لتتحوّل إلى قضية سياسية وأمنيّة، وأدخلت إيران في منعطف لعله الأخطر في عمر الجمهورية الإسلامية، وما زالت فصول هذه القضية وأصداؤها تتوالى منذ نحو ثلاثة أشهُر. فما حقيقة شرطة الأخلاق أو دوريات الإرشاد؟ وما صحّة قرار وَقْفها؟ وماذا وراء ذلك؟
تم تفعيل شرطة الأخلاق أو دوريات الإرشاد في إيران سنة 2005م مع بدايات حكم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وكانت بمثابة ذراع نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتطبيق الحجاب واللباس الشرعي وفرضه قسريّاً ومعاقبة المخلّات.
والواقع أن هذه المسألة أقدم من عصر أحمدي نجاد، فهي تعود إلى بدايات ثورة الخميني حينما دعا بعد نجاحها سنة 1979م إلى ضرورة التزام النساء الحجاب خارج البيوت، خلافاً لما كان سائداً في حقبة الحكم البهلوي السابقة (1925-1979م)، وبعكس القرار الذي أصدره مؤسس تلك السلالة البهلوية رضا شاه سنة 1936 الذي نصّ على حظر ارتداء الحجاب بذريعة حيلولته دون تطوُّر البلاد وحرمان المرأة من مشاركتها في بناء الدولة، وقد واجه ذلك القرار معارضة شديدة في إيران من قبل رجال الدين والشرائح المحافظة والمفكرين ودعاة حرّيّة اللباس، وبعد تسلُّم ابنه محمد رضا البهلوي زمام المُلك 1941 غضّ النظر عن قرار فرض عدم ارتداء الحجاب بالقوة، لكنّه كان يروّج كشف الحجاب والتعرّي بشتى الأساليب والسبل المتاحة.
وبعد قيام الثورة الإسلامية تشكلت دوريات باسم "جند الله" لفرض الحجاب واللباس الإسلامي، وقد حاول بعض النساء الإيرانيات آنذاك الاعتراض على قرار فرض الحجاب بالقوة، فجرى التصدّي لهن تحت شعار "روسرى يا توسرى" أي "الحجاب أو الضرب والعقاب".
وطوال هذه العقود شهدت إيران تحولات سياسية واجتماعية وعلمية كثيرة، وتواصل عمل هذه الشرطة على الرغم من تعدُّد أسمائها ومهامِّها، حتى كانت حادثة مقتل مهسا أميني، المنعطف الأهم في مسار عملها، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إن إيران ما قبل مقتل مهسا أميني ليست كإيران بعدها، فما الذي حدث؟ وما أهميته وخطورته؟
بعد مقتل هذه الفتاة تنكّرت شرطة الأخلاق ودوريات الإرشاد بداية لمسؤوليتها عن الحادثة، لكن بعد تسرُّب بعض صورها والتقارير الطبيّة وآثار الضرب والتعذيب من المستشفى الذي أُسعفَت إليه، انتفض الشارع الإيراني، وتحوّلت المسألة من الاحتجاج على العنف ضد المرأة والحجاب الإجباري والمطالبة بالحرّيّة إلى مسألة سياسية وأمنيّة غير مسبوقة.
واجتاحت الاحتجاجات جميع إيران بقومياتها ومذاهبها وتياراتها السياسية كافة، وطالت شعاراتها أهمّ شخصياتها السياسية ومرجعياتها الدينية. وقد راهنت قوات الأمن على إنهائها بسرعة لكنّها امتدت واتسع مداها على الرغم من أنها لم توفّر أي وسيلة سلمية أو قمعية لإخمادها، وانضمّ إلى صفوف المحتجين عدد من المشاهير والنُّخَب الإيرانية، وحظيت بتعاطف وتأييد عالمي، على الصعيدين الشعبي والرسمي، كان آخرها قبل أيام حين قدّمت فرنسا وبريطانيا جائزة حقوق البشر لعام 2022 لمهسا أميني والنساء الإيرانيات.
وَقْف شرطة الأخلاق بين النظرية والتطبيق
في خضمّ تلك الأوضاع الخطيرة أعلن المدّعي العامّ في إيران محمد جعفر منتظري وَقْف عمل دوريات شرطة الأخلاق أو دوريات الإرشاد، قائلاً إن "دوريات شرطة الآداب لا تتبع السلطة القضائية، ومَن أسّس هذه الدوريات في السابق هو بالذات من أغلقها".
وقد حملت هذه الخطوة كثيراً من الردود والآراء تراوحت بين مَن نفاها تماماً وشكّك بالخبر، ومرحّب بها عدّها خطوة في مسار تحقُّق مطالب المحتجّين وتراجع الحكومة، وهنالك من رأى أن وَقْفها نظريٌّ فحسب وأن الذين يرونه نصراً للمتظاهرين وتراجعاً للنظام واهمون ومخدوعون، فالقرار يهدف إلى حرف أفكار الخارج والداخل عن القمع والاعتقال والقتل الذي يتعرّض له المتظاهرون، وتشتيت صفوفهم وبثّ الفرقة بينهم عبر هذه الرسائل السلمية.
ولعلّ إحجام الحكومة الإيرانية عن ذكر أي تفاصيل رسمية للخبر قد فتح باب التأويلات والتفسيرات بين الإيرانيين، وطرح جملة من الأسئلة المشروعة، ومنها: لماذا لم يذكر المدّعي العام اسم الجهة التي أسّست هذه الدوريات وشرطتها الأخلاقية ويفوّض إليها إغلاقها؟ وما خطة عمل تلك الشرطة ووظائفها المنوطة بها؟ وما تفاصيل قرار وَقْف هذه الشرطة وبنوده؟ وهل ستتوقف فقط في الشوارع فيما تستمرّ في المؤسسات والأماكن الحكومية؟
هذا الإبهام في تصريح المدّعي العامّ -ولعلّه متعمَّد- قد دفع كلَّ حزب وفريق إلى تأويله وفق رغبته، فقد حاول المتشدّدون وأنصار فرض الحجاب نفيه أو تفسيره كما يرغبون، إذ أوردت قناة "العالم"، وهي أهمّ القنوات الإعلامية المتحدّثة باسم التيار المحافظ، أن كلّ ما يُستشفّ من كلام منتظري هو أن دوريات شرطة الآداب في الأصل لم تكُن مرتبطة عضويّاً بجهاز القضاء منذ إنشائها، وأن السلطة القضائية ستستمرّ في مراقبة الأفعال والسلوكيات على مستوى المجتمع. وشاركتها في هذا وكالة أنباء الطَّلَبة التي رأت أن هنالك "سوء فهم من أعداء الثورة ووسائل الإعلام الأجنبية".
إن السبب الكامن وراء إصرار النظام في إيران على فرض الحجاب والتركيز عليه دون غيره من مظاهر الحياة هو رمزيته ودلالته السياسية كما رأينا، وهذا ما عبّر عنه حسين جلالي عضو المجلس الثقافي في مجلس الشورى بالقول: "إن الحجاب والعفاف اليوم هو علَمُنا، وسقوط العفاف والحجاب يعني سقوط عَلَم الجمهورية الإسلامية، فإذا سقط اللباس الإسلامي في إيران اليوم فهذا يعني سقوط الجمهورية الإسلامية". ويرى أنصار النظام الإيراني أن النظام الإسلامي في إيران يتصدّى لأكبر مأزق يواجهه منذ قيامه، وهو غير مستعدّ للتراجع خطوة إلى الوراء، فمنحه أي امتياز هو بمثابة إظهار ضعفه، وقد يراه بداية لسقوطه.
وقد أصدرت جامعة المدرّسين في الحوزة العلمية بمدينة قُم بياناً انتقدت فيه وضع الحجاب والعفاف في إيران، ورأت في الاحتجاجات الشعبية "حركة مُنظَّمة من حركات أعداء الثورة الإسلامية"، وأعلن بعض نواب مجلس الشورى عن الإعداد لمشروع جديد للحجاب والعفاف سيرفع ضريبة عدم التحجُّب، من قبيل حرمان النساء غير المحجبات من الحساب المصرفي والخدمات الاجتماعية.
وعلى الرغم من مرور أسابيع على إصدار هذا القرار، وغياب دوريات الأخلاق في الشارع الإيراني ولا سيما في العاصمة طهران، لكن قوانين الحجاب الإلزامي ما زالت قائمة، وأساليب قمع المتظاهرين وحريات التعبير مستمرة، وتؤكّد تقارير فصل أحد مديري البنوك وإغلاق بعض المحالّ التجارية نتيجة تقديمها خدمات لغير المحجبات، ناهيك بوصف المخالفين له بالمتمردين والخونة والتعاون مع القوى المعادية ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالتالي تسويغ قمعهم بشتّى الوسائل. فإذا كانت شرطة الأخلاق ودورياتها توقفت فعليّاً، فهل فُعّلَت ضغوط على المجتمع بعناوين أخرى من جهة ثانية؟
شرطة الأخلاق.. السلبيات وضرورات الوَقْف
بعيداً عن مسألة قبول شرطة الأخلاق أو رفضها، طالت انتقادات كبيرة شرطة الأخلاق وأخلاقها وأسلوب عملها، وتجاوُزها الحدود التي يُفترض أن تكون مقتصرة على التوعية والإرشاد لا الاشتباك والاعتقال والتجريم.
كما ركّز كثير من منتقديها على الميزانية الضخمة التي تُصرَف عليها دون أن يكون لعملها في الشارع أي مردود أخلاقي.
ورأى البعض أنها تجاوزت الخطّة المرسومة لها، فقد رأى حسين كنعاني مقدّم، العضو السابق في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن "الأمر بالمعروف كان في الأصل حركة ثقافية، أما الآن فبات تجريماً، ونوع القانون الذي يُطبَّق الآن تجاه المُخِلّين بالحجاب لم يكن قَطّ في مخيّلتنا، ومن المؤسف أن هذا الانحراف عن الفكرة الأولى قد كلّف البلد ميزانيات ضخمة، وراح البعض يكشف حجابه بوصفه رمزاً للاعتراض السياسي والعصيان المدني".
ولعل سلبيات هذه القرارات وآلية تطبيقها لم تقتصر على الوضع الداخلي، فقد رأت طيبة سياوشي عضو مجلس الشورى السابق، أن "دوريات الإرشاد قد أظهرت وجهاً قبيحاً لإيران في المحافل الدولية بما رشح عنها من صور وأفلام للسلوك غير المناسب مع النساء، فهي تدخل إلى خصوصية المرأة وتتعامل بمزاجية، فحتى مهسا أميني كما أظهرت صورها قوات الأمن لم تكن مرتدية لباساً غير عادي".
وقد تحدّثت صحيفة خراسان عن التململ الكبير من عمل شرطة الأخلاق وسوء الأوضاع الداخلية في إيران، فتحت عنوان "النُّخَب لا يتفقون مع خطّ دوريات الإرشاد"، تحدّثت الصحيفة عن الفساد الذي يهيمن على مؤسسات الدولة الإيرانية ووزاراتها، وغياب معايير التوظيف، فالمهندس يعمل في الأمور الثقافية، والسياسي في الأمور الاجتماعية، وعنصر الأمن يعمل في الاقتصاد.
إن الداخل الإيراني اليوم يعيش حالة غير مسبوقة من السخط والغليان، والجميع متفق على وجود أزمة داخلية خطيرة أكبر من ذريعة شرطة الأخلاق وحلّها، فهنالك ملفّات اقتصادية وسياسية واجتماعية يطالب الناس بحلّها ولسان حالهم يقول: لماذا إيران، بخلاف كل دول العالم، فقيرة على الرغم من ثرواتها الهائلة، وتموج بالأمّية على الرغم مما فيها من علم وعلماء، ومضطربة على الرغم من قدراتها العسكرية؟!
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.