أُلغيَت القوانين كافةً التي تعطي نوعاً من الحكم الذاتي الموسَّع لسكان إقليم جامو وكشمير ذي الأغلبية المسلمة، ووُضع الزعماء السياسيون قيد الإقامة الجبرية، وتم تعطيل الاتصالات وخدمات الهاتف والإنترنت، وانتشرت قوات الأمن بكثافة كبيرة منعاً لقيام انتفاضة شعبية.
وحسب اتفاقية "الوضع الخاص" يُمنع الهندوس من خارج الإقليم الانتقال إلى الإقليم والسكن فيه كي يحافظ على تركيبته السكانية. ونودّ أن نوضّح في هذا المقال معنى هذا التغيير الجذري في وضع الإقليم وما يجري هناك، ونؤكّد أن محاولات طمس القضية لا تعني أنها ستختفي ولا تعود موجودة، بل إن الحروب الكبرى قد تشعلها شرارة من نار هادئة مدفونة تحت الرماد. فالنزاع بين دولتين نوويتين جارتين لا يختفي بقرار من واحدة منهما، بل لا بد من اتفاق بين الطرفين بإشراف دولي تصدّق عليه الدول الكبرى.
كشمير والجرح النازف منذ عام 1947
يقع إقليم جامو وكشمير في الشمال الغربي لشبه القارة الهندية على حدود باكستان والصين، والإقليم غني جدّاً بموارده الطبيعية وطبيعته الخلابة، وتصل مساحته إلى 222 ألف كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانه إلى نحو 20 مليوناً موزَّعين بين الشطرين الهندي والباكستاني ودول الشتات، وجزء صغير منه يقع تحت قدمي الهيمالايا يخضع للسيطرة الصينية منذ عام 1962.
كانت الهند قد ضمَّت جامو وكشمير بافتعال طلب من الحاكم الهندي "المهراجا" عام 1946 ببقاء الإقليم مع الهند وعدم الانضمام إلى الدولة المسلمة (باكستان) بناءً على اتفاقية تَقاسُم الولايات حسب الأغلبية السكانية. وكان قد اتفق مع الزعيم المحلي الشيخ عبد الله على الانضمام إلى الهند بدل الاستقلال، وأقنع السلطات الهندية أن الغالبية من السكان تريد البقاء تحت سيطرة الهند. لكن سكان الإقليم أطلقوا موجة احتجاجات ومظاهرات وراحوا يقاومون الضمّ بالقوة، فقامت الهند بإرسال قوات محمولة لإخماد حركة الاحتجاج، ما دعا إلى تدخُّل قوات قبلية وباكستانية لنصرة الكشميريين. من هنا بدأ النزاع وأدَّى إلى تَمزُّق الإقليم بين الهند وباكستان والصين. وقد سبّب الإقليم ثلاث حروب بين الجارين الكبيرين. والتوتُّر ما زال قائماً والاحتكاكات والمناوشات لم تهدأ قط. وتُعتبر قضية كشمير بالنسبة إلى باكستان قضية مركزية وأمناً وطنياً تحظى بإجماع الطبقة السياسية بكاملها، بغضّ النظر عن الانتماء الحزبي.
اعتمد مجلس الأمن الدولي 11 قراراً بين عامَي 1947 و1951 تتعلق بحقّ تقرير المصير للشعب الكشميري، فالقرار رقم 47 الذي اعتُمد في 21 أبريل/نيسان 1948 دعا إلى حقّ تقرير المصير عبر استفتاء حرّ ونزيه، لكن الهند رفضت القرار، ثم عاد مجلس الأمن ودعا في القرار 91 (1951) إلى حسم النزاع عبر محكمة العدل الدولية، لكن الهند رفضت هذا الإجراء كذلك. وبقِيَت قرارات مجلس الأمن الدولي العديدة حبراً على ورق.
ومع نهاية المواجهات الأولى عام 1948 أنشأت الأمم المتحدة بعثة للمراقبة المؤقتة حتى الاستفتاء (UNGOMIP)، لكنها ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. لقد أقرَّت الهند كنوع من المرونة بعد المواجهات عام 1954 اتفاقية خاصة تنصّ على "وضع خاص" للإقليم، بحيث يخضع لحكم ذاتي ولا يجوز لشخص من خارج الإقليم الاستيطان فيه. وبقيت الأمور بين مدّ وجزر ومواجهات ووساطات إلى يوم 5 أغسطس 2019 عندما قرّر برلمان الهند الذي يسيطر عليه حزب بهاراتيا جاناتا، الذي يتزعمه رئيس الوزراء نارندرا مودي، إلغاء "الوضع الخاصّ" واعتبار الإقليم جزءاً لا يتجزأ من الهند.
في كلماته أمام الجمعية العامة في دوراتها الثلاث الأخيرة تجاهل مودي، رئيس وزراء الهند، قضية كشمير تماماً كأنها غير موجودة، وعندما سألتُ الممثّل الدائم للهند لدى الأمم المتحدة ت.س.تيريمورتي، في مؤتمر صحفي عقده بمناسبة تَقلُّد الهند رئاسة مجلس الأمن الدولي لشهر أغسطس 2021، عن موضوع إلغاء الوضع الخاص لإقليم جامو وكشمير، قال: "في البداية أريد أن أطرح أمراً بكل وضوح، هو أن جامو وكشمير جزء لا يتجزأ وأصيل من الهند، ويجب الإقرار بهذا أولاً، وكل القضايا المتعلقة بإقليم جامو وكشمير تقع ضمن القضايا الداخلية للهند". هكذا إذاً قرّرَت القيادة الهندية شطب مسألة كشمير من الخارطة السياسية العالمية، لكن هل هذا هو الحل؟
الوضع الراهن
بعد إلغاء "الوضع الخاص" للإقليم انتشرت المظاهرات القوية احتجاجاً على الوضع الجديد الذي يسمح للمواطنين الهنود بالانتقال إلى المنطقة وتَملُّك الأراضي وبناء المعابد، فنشرت الهند نحو 900 ألف جندي وضابط من القوات العسكرية وشبه العسكرية المتمركزة في المنطقة، وأغلقت الإقليم تماماً، وقطعت الاتصالات الهاتفية والإنترنت والبث التليفزيوني، وفرضت قيوداً على التنقُّل والتجمُّع والتظاهر. ووضعت في السجن القيادة السياسية الكشميرية بأكملها، واعتقلت ما لا يقلّ عن 13 ألف ناشط أُخضعَ العديد منهم للتعذيب، كما خلّفَت المواجهات مئات القتلى وآلاف الجرحى. لقد استخدمت القوات الهندية القوة المفرطة كالاغتصاب والعقوبات الجماعية وهدم أو إحراق الأحياء والقرى بأكملها وقيَّدَت حرية الدين والتعبير والتجمع.
لكن الأخطر من ذلك هو العمل على تغيير النسيج الديموغرافي، فقد أصدرت الهند في السنتين الأخيرتين 4.2 مليون شهادة إقامة في الإقليم. إنه الابتلاع المتدرج والتطهير العرقي وتحويل الأغلبية المسلمة في كشمير إلى أقلية ضعيفة مفكَّكة مقهورة.
تغييب القضية الكشميرية
تم تغييب القضية الكشميرية عن جداول أعمال مجلس الأمن والجمعية العامة ولجان حقوق الإنسان لأكثر من ستين سنة. وكانت تظن الهند أن العالم نسي القضية تماماً، إلا أن المواجهات بين السكان الأصليين والقوات الهندية لم تتوقف، ما دعا المفوَّض السامي الأسبق لحقوق الإنسان زيد بن رعد الحسين، إلى أن يعلّق الجرس وينشر تقريراً موثَّقاً للفترة من يونيو/حزيران 2016 إلى أبريل/نيسان 2018 عن وضع حقوق الإنسان في كشمير في 49 صفحة، تبعه تقرير للمفوَّضة اللاحقة ميشيل باشيليه للفترة من مايو/أيار 2018 إلى أبريل 2019 في 43 صفحة. وقد وثّق التقريران بالتفاصيل الدقيقة أنواع الانتهاكات كافةً في الإقليم.
حاول المفوَّض السامي السابق زيد بن رعد الحسين، تشكيل لجنة تحقيق حول انتهاكات حقوق الإنسان على جانبَي خطّ السيطرة في كشمير إلا أن ضغوطاً عظيمة مورست على الأردن حتى اضطُرّ أن يترك المنصب ولا يطلب تجديد ولايته. لقد سلّط التقريران الضوء على الإفلات المزمن من العقاب بشأن الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن الهندية في جامو وكشمير وتؤدي إلى معاناة الملايين من البشر. وتشرح التقارير بالتفصيل كيف أن موظفي الأمن يتمتعون بمناعة من المساءلة، وهو ما أدَّى إلى عرقلة التحقيقات في حالات الاختفاء القسري ووجود مقابر جماعية واغتصاب جماعي للعديد من النساء من قبل الجنود.
القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وكل الشرائع الدولية واضحة في منح حقّ تقرير المصير للدول والشعوب الخاضعة للاستعمار والاحتلال الأجنبي. فغالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة اليوم جاءت بفضل ممارسة هذا المبدأ الأساسي الذي نصّ عليه قرار الجمعية العامة الشهير (1514) لعام 1960. ومع ذلك فقد حُرم بعض الشعوب من ممارسة هذا الحق مثل الشعب الكشميري، لأن دولاً كبرى تقف عثرة في الطريق. قضية كشمير لم تمُتْ وتُعتبرُ مسألة حساسة جدّاً يجب الاهتمام بها، بخاصة أنها تشمل جارين نوويين قد يؤدي أي احتكاك بينهما إلى إشعال مزيد من الحرائق في عالم متوتر لا يحتمل مزيداً من المواجهات بين الدول الكبرى.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.