تابعنا
لم تظهر معركة السابع من أكتوبر والعدوان الإسرائيلي التالي لها تعاطفاً عالمياً أوسع مع الفلسطينيين، وإنما أعادت فلسطين إلى قلب الاستقطاب العالمي، ليس فقط بين مجتمعات الجنوب والشمال، وإنما كذلك بين الحركات الديمقراطية الجذرية في المجتمعات الغربية.

في العاشر من مارس/آذار الجاري كان قد مضى على معركة غزة أكثر من خمسة أشهُر عندما وقف المخرج البريطاني جوناثان غليزر على مسرح الحفل السادس والتسعين لجوائز أوسكار، معلناً رفضه اختطاف يهوديته والمحرقة التي تعرَّض لها اليهود من احتلال قاد إلى صراع على حساب أناس أبرياء، مشيراً إلى ما يحدث في قطاع غزة.

كلمات غليزر نالت التصفيق في قاعة الجائزة، لكنها أثارت جدلاً متوقعاً في الأوساط اليهودية في الخارج، وتلقى غليزر الاتهامات "الصهيونية" الجاهزة في حالات كتلك، مثل التهوين من شأن المحرقة إلى اعتبارها على حدّ وصف الوزير الإسرائيلي أميكاي شيكلي "الأحمق النافع"، أي ذلك الشخص الذي يُستخدم لسذاجته وحسن نيته في تشويه قضية ما.

كلمات غليزر على المسرح العالمي أعادت إلى الأذهان مشهد تسلُّم الممثلة البريطانية فينيسا ريدغريف جائزة أوسكار لأحسن ممثل مساعد عام ١٩٧٧، عندما قوبلت كلماتها ضد من سمّتهم "شبيحة الصهيونية" باستهجان ووجوم الحضور.

ريدغريف التي كانت تتسلم أوسكار لدورها في فيلم "جوليا" الذي يصور حياة مناضلة ضد الفاشية يقتلها النازي خلال الحرب العالمية الثانية كانت قد شاركت في العام نفسه في فيلم "الفلسطيني" للمخرج اليساري روي باترسبي، الذي يوثق نضال منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وقد ظهرت في الفيلم في مقابلة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عبّرت خلالها عن تأييدها لرأي عرفات في المقابلة بأن حل أزمة الشرق الأوسط يكمن في التخلص من إسرائيل.

أدت مشاركة ريدغريف في العمل إلى رد فعل عنيف من المنظمات "الصهيونية" في الولايات المتحدة بلغت حد التهديد بالقتل، ولم يستثِر ذلك أي رد فعل على غرار ما جرى مثلاً في حالة التهديدات التي وُجهت إلى سلمان رشدي، بل إن ريدغريف، إحدى الممثلات القليلات اللاتي جمعن ثلاثية الجوائز أوسكار وإيمي وتوني، ظلت لاحقاً تواجه متاعب مهنية جراء موقفها الجذري.

أما مخرج فيلم "الفلسطيني" باترسبي فقد أدرج في ما بعد ضمن القائمة السوداء لشبكة بي بي سي بسبب عضويته في حزب العمال الثوري، وهو حزب شيوعي تروتسكي في إنجلترا.

أعطت كلمة غليزر واستقبال الحضور الإيجابي لها انطباعاً بتحول إيجابي في الرأي العام الأمريكي، ومن ثم العالمي، تجاه القضية الفلسطينية، لكن استطلاعات الرأي لا تعطي نفس الوعود الكبرى.

صحيح أن نسبة من يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني أكثر من إسرائيل بين الأمريكيين وفقاً لاستطلاع غالوب، إذ بلغت ٢٧% عام ٢٠٢٤، مقارنة بنسبة ١٦% عام ٢٠٠١، وكذلك بلغت نسبة من يؤيدون دولة فلسطينية مستقلة ٥٣% عام ٢٠٢٤ مقارنة بنسبة ٤٠% عام ١٩٩٤، لكن بيانات أخرى تدفعنا إلى مزيد من الحذر.

مثلاً، ارتفعت نسبة من يعارضون دولة فلسطينية مستقلة بين الأمريكيين إلى ٣٤% عام ٢٠٢٤ مقارنة بنسبة ٢٠% عام ١٩٩٤، وفقاً لغالوب، أما ارتفاع المتعاطفين مع الفلسطينيين في فئة الشباب (١٨-٣٥ عاماً) فيظل دون ٣٥%، أي لا يبتعد كثيراً عن المتوسط.

فلسطين عقدة استقطاب

لم تظهر معركة السابع من أكتوبر والعدوان الإسرائيلي التالي لها تعاطفاً عالمياً أوسع مع الفلسطينيين، وإنما أعادت فلسطين إلى قلب الاستقطاب العالمي، ليس فقط بين مجتمعات الجنوب والشمال، وإنما كذلك بين الحركات الديمقراطية الجذرية في المجتمعات الغربية، بمكوناتها المختلفة مثل حركات مناهضة العنصرية وحركات الأقليات العرقية والثقافية والحركات النسوية والبيئية، أو الحركات العمالية واليسارية الشعبوية، هذا من جهة، وأحزاب السلطة التقليدية وحلفائها من كبار رجال الأعمال والمديرين التنفيذيين من جهة أخرى.

وجَّه هذا الاستقطاب ضربة عنيفة إلى ما يسمى بالنيوليبرالية التقدمية، أي تلك الشبكة من المنظمات والمؤسسات الاقتصادية والأحزاب السياسية والمشاهير الذين يتبنون مواقف تقدمية ظاهرياً في بعض القضايا الآمنة مثل قضية حق النساء في المناصب العليا بالمؤسسات الاقتصادية الكبرى ومناصب السلطة والأحزاب السياسية الكبرى، بحيث إنّ تلك المواقف لا تضرّ بمصالح تلك المؤسسات والفئات ولا تورطهم في معارك فعلية.

في إطار هذا الاستقطاب يضطر مفضلو الانحيازات الآمنة إلى التورط في صِدام لا يحتمل الحلول الوسط أو المواقف التي لا تضر بالمصالح، فإما أن تنحاز بشكل حاسم وبلا تردد، ليس إلى الشعب الفلسطيني المكلوم وإنما إلى حقه في المقاومة "بكل الوسائل الضرورية"، وإما أن تسفر بوضوح عن وجهك العنصري بلا أقنعة من المواقف الرخيصة.

يحمل العنف الثوري دوماً هذه الميزة، فهو يخلق عقدة استقطاب ترد الأطراف إلى قيمها الأصيلة وتجردها من الأقنعة، فكما كان العنف الثوري في الجزائر هو عقدة الاستقطاب التي أسفر عبرها ألبير كامو عن وجهه العنصري، بحيث ارتدّت وجوديته إلى نوع من القبلية الرومانسية حين أعلن انحيازه إلى جماعته من المستوطنين الاستعماريين، أتى العنف الثوري للمقاومة الفلسطينية في غزة وعلى رأسها حركة حماس لينزع الأقنعة عن أوجه يورغن هابرماس وسلافوي جيجك وسيلا بن حبيب، ليوقفهم أمام مرآة فلسطين الفاضحة بلا ملابس الرطانات الليبرالية أو اليسارية أو النسوية، جماعة من العنصريين البيض.

جاءت معركة السابع من أكتوبر بعد عقود من التحولات الإمبريالية التي قضت على أشكال المقاومة كافة، ووصمتها بـ"الإرهاب"، واستطاعت أن تبتز نقّادها باتهامات بالإرهاب ومعاداة السامية، لذلك أربك الحدث الجميع، النقّاد كما السلطات، وأقام اختباراً مستمراً بين من يرتد إلى عنصريته البيضاء أمام ضغوط المؤسسة وإرهابها الخطابي، ومن يخلص إلى مبادئه التحررية ومتطلباتها الثورية.

لا أوهام اليوم عن الديمقراطيين الأمريكيين أو الاشتراكيين الألمان، فتمويلات مؤسسات المجتمع المدني لم يعُد بإمكانها تغطية العورة الإمبريالية لقوى سياسية واقتصادية طفيلية تعيش على امتصاص وسحق الملايين سواء في مجتمعات الجنوب أو ضواحي المدن الأوروبية.

استعادة التضامن الكوني

عبّرت كلمات غليزر على مسرح أوسكار عن إمكانية أطلقتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لاستعادة حركة تضامن عالمية بين القوى التحررية في شمال العالم وجنوبه، وفي شرقه وغربه.

في إطار هذه الحركة يمكننا أن نرى نيكاراغوا في الكاريبي تعانق جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية أمام التحالف النازي الجديد بين ألمانيا وإسرائيل، ويمكننا أن نرى تضامناً حميماً من ديمقراطيات أمريكا اللاتينية والمكسيك التي اتخذت مواقف أكثر تقدماً كثيراً في المسألة الفلسطينية من مواقف الحكومات العربية.

أما في أوروبا والولايات المتحدة فإن الطاقة الديمقراطية التي أظهرتها الحركة الطلابية في جامعات هارفارد وكولومبيا وبنسلفانيا وغيرها، واللوحة الإنسانية التي رسمتها احتجاجات حركة الصوت اليهودي من أجل السلام، والمظاهرات الحاشدة التي نجح اليسار البريطاني والفرنسي في جمعها في شوارع لندن وباريس، بل وفي شوارع برلين أحياناً، والمواقف الإيجابية لحكومات بلجيكا وإسبانيا وأيرلندا، كل تلك الإسهامات تعبّر عن إمكانية استعادة التضامن العالمي في مواجهة تحالف الحكومات اليمينية والمؤسسات الرأسمالية الكبرى وحكومات الريع النفطي في سبيل فرض مزيد من العدالة والمساواة وحماية القواعد الشعبية الأوسع من تغول تلك النخب ومصالحها.

هكذا، كما كانت المقاومة الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مركزاً تجتمع عنده خطوط نضالات عالمية متنوعة، تمتد من اليابان في أقصى الشرق إلى ألمانيا الغربية وفيتنام وكوبا، فإن المقاومة الفلسطينية اليوم تفتح أفقاً جديداً لتآزر تلك النضالات.

هذا الإمكان هو فرصة لكل داعمي المقاومة حول العالم، عليهم التقاطها والعمل على تنظيم تلك الحالة وحماية استدامتها وتوسيع قاعدتها الشعبية، على أمل أن توفر للمقاومة الفلسطينية ظهيراً أقوى كان كفيلاً حال توفره في تلك المعركة أن يقلب موازين القوى التي بذلت الولايات المتحدة كل ما تملك، حتى التضحية بمصالحها، في سبيل ترجيح كفة إسرائيل فيها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً