وتمشياً مع هذا التحقيب الذي صهرته التجربة الجماعية وجعلت منه أفقاً لصناعة المعنى وتوثيق الذاكرة، يُفترض بنا اللحظة ونحن نودع سنة ونستقبل أخرى، أن نبحث عن التوصيف الممكن للفائت من أيام، فهل هو عام "الفيروس التاجي" أم عام "الحجر والضجر" أم هو عام "اللايقين وموت المعنى"؟
ليس من السهل الحسم في التوصيف، ولا الحسم قبلاً في المقاربة الممكنة، والمؤدية بآليات اشتغالها، إلى هذا التوصيف الذي قد يصدق قليلاً أو كثيراً على حال العالم خلال السنة الفائتة، فالأحداث كانت تتواتر بإيقاع أعلى، وما كانت تترك لنا فرصة للتثاؤب، ولا حتى لأخذ نفس عميق، فمن واقعة إلى أخرى، ومن سؤال إلى آخر أكثر منه إثارة للخلاف والاختلاف.
ليس هناك من طريق سوى الاسترجاع والاستجماع، ليس بنفس نوستالجي يبرر ثقل التاريخ ومركزيته في توجيه وبناء الأفهام، ولكن من مدخل الاعتبار والقراءة الخالصة للمنطق الاجتماعي، إنه استقراء ممكن لانفتاحات وانغلاقات عالم في محك التحول، تبصمه حالات من السواء والاختلال في الآن ذاته. فما الذي يجب استحضاره عندما تنقضي سنة وتحل أخرى؟ ما الإشارات القوية وكذا التفاصيل الدقيقة، ولربما العابرة التي بصمت العالم خـلال سنة ودعناها بالفعل والقوة؟ ما أقوى اللحظات في شقيها السلبي والإيجابي لذاك "المشترك الإنساني" الذي يوحدنا ويفرقنا، والذي الذي لا يبعث على الارتياح بالمرة؟
في المرآة العاكسة لسنة الجائحة، تلوح الكوارث الطبيعية والأمراض والأوبئة والانفجارات والأزمات والحروب والاغتيالات، بدءاً من اغتيال قاسم سليماني إلى طبول الحرب التي دقت لأكثر من مرة في الشرق الأوسط، في محاولة لتحجيم الحضور الإيراني. كما نختبر في ذات الصورة المشوشة بواقع صفقة القرن، مسارات التطبيع التي اتسعت لتشمل الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، بعد أن دشنت أولاً من طرف مصر والأردن، وستتواصل حتماً في قادم الأيام، إما سراً وإما علناً، مع كل الدول العربية. كما نرى في ذات الشاشة واقعة "التدين عن بعد" تحت ضغط الجائحة التي استوجبت تعليق منح تأشيرات العمرة وتنظيم الحج بنحو ألف حاج، بعد أن كان الحرم المكي يستقبل أزيد من مليونين ونصف مليون حاج خلال موسم الحج.
شيئان لا نستطيع التحديق فيهما طويلاً، حسب ريجيس دوبري، إنهما الشمس والموت، لكن لما يصير الموت رفيقاً في سنة اللايقين، يصير التحديق طويلاً فيه طقساً يومياً، نتلقف أخبار الذين قضوا بسبب الجائحة، نرتعب من عدم استعمال المعقم أو ارتداء الكمامة، لنعي أن حقيقة الموت تكمن في مجابهته، في اختبار آلامه وفجائعه، هنا نصير وجهاً وجهاً مع جثة هامدة، تستفزنا، تستدعي مخيالنا، إرثنا، تمثلاتنا، ذاكرتنا المنشرخة، تتقاذف الصور في الأعماق، ونتذكر جيداً ما قاله سارتر ذات يوم بأننا قذفنا إلى هذا العالم، ولربما قذفنا إليه كيفما اتفق وعلى حين غرة. إنه وضع ملتبس، منفلت، ضبابي، لا تستقيم معه الرؤية، فلا نعرف من أين البدء؟ ولا كيف يكون البدء؟ ولا لماذا البدء؟ وليس الانتهاء؟ ولا إلى أين المنتهى؟ تيه على تيه، في انتظار ما لا ينتظر.
هو موسم للسقوط والانهيار، فقد تهاوت الكثير من المسلمات واليقينيات والأطروحات، بسبب جائحة كورونا وصفقة القرن وبؤس السياسة ومعادلات الاقتصاد الصعبة وحسابات الكبار الذين يتحكمون في اللعبة الدائرة بلا انقطاع. والسقوط هنا، كمعنى واقعي ومجازي لا يهم المجال فقط، بل يهم الإنسان أيضاً، فقد لاح قوياً خلال هذه السنة أن "الإنسان يموت فينا" وأننا سائرون نحو "قحط إنساني" أو بالأحرى "مسلخ بشري" موغل في الرداءة والصقيع الاجتماعي، فقد أهدتنا السنة الفائتة أخباراً مفجعة عن قتل الإنسان بسبب لونه، كما الحال مع جورج فلويد.
إن الحصاد السوسيوسياسي لهذه السنة كان بمختلف ألوان الطيف، جائحة وحجر وضجر، احتجاجات بالجملة، فيضانات وحرائق، زيادات في الأسعار، اغتيالات وحروب وانتخابات، صفعات وضربات موجعة للاقتصاد بسبب الركود الذي فرضه كوفيد 19، وما تلاه من سوء أحوال سياسة اجتماعية، عملت فيها الدولة على تجذير سلطاتها وتأكيد عودتها وتملكها للمجال العام.
وإذا كان العالم قد وصف بالركود والحصر في عدة مراحل من تطوره، فإنه اليوم، وعلى عكس ذلك، أصبح يعرف العديد من التحولات، أي تحولات في قواعد اللعب، وفي الغايات والوظائف والبنيات التي يعتمد عليها، مثلما حدث في ديناميات المجال التعليمي، الذي انتقل مكرهاً من التعليم الحضوري إلى سياق الـ"عن بعد"، فضلاً عمَّا حدث في مستوى العلاقات والتواصلات الإنسانية التي باتت توثر التباعد الاجتماعي، بعد أن كان القرب والدفء الاجتماعي هو أعز ما يطلب. ولعل هذا التحول المتسارع والمخلخل لمنطق الحقول ومجريات اللعب، هو الذي يدفع إلى التوكيد على أنها سنة من اللايقين وموت المعنى، والتي استمرت فيها مؤشرات "الاجتماعي" في التدهور، وانكشف فيها ومن خلالها بؤس السياسة وهشاشة المقاربة المعتمدة في تضميد جراح العالم، كما لاح فيها العنف والعنف المضاد، في صيغة اغتيالات سياسية وحروب جائرة وعنف "إيديوديني" وقمع متواصل للحركات الاحتجاجية ومُطالبات التغيير والتجاوز.
إنها سنة عجفاء من الناحية الاجتماعية، لم يستطع فيها العالم في الشمال أو الجنوب أن يلبي الاحتياجات الملحة لنزلاء القاع الاجتماعي، ولا أن يقنع المواطن المغلوب على أمره بأن تغييراً قد حدث، أو قد يحدث مستقبلاً. فحتى من راهنوا على "دروس كورونا" في استعادة الإنسان لوعيه، وانتهائه من صناعة الهباء، تأكد لهم بالملموس، ومع توالي الشهور الأولى للجائحة، أن الواقع يرفض الارتفاع، وأن البطالة والهشاشة قدرهم حتى إشعار آخر، وأن المتغير هو عودة الدولة الحارسة. فلم تكن إلا سنة لإعادة إنتاج نفس الأعطاب والإعاقات، لكن بصيغ أكثر إيلاماً وأزموية.
لقد ودعنا سنة 2020 على إيقاع من الخوف والتردد واليأس والرجاء، فبعد أن تنفس العالم الصعداء بعد اكتشاف اللقاح، ها السلالة الجديدة من الفيروس، وها أخبار الأعراض الجانبية للقاح، تسرق منا الارتياح مرة أخرى، إنها سنة بطعم الهشاشة والاحتقان، سنة اللايقين والرجات الإنسانية العميقة، كان فيها "الإنسان" الأكثر تداولاً واستثماراً في مختلف النقاشات السياسية، ومع ذلك ظل فيها ذات "الإنسان" الأكثر تضرراً وانسلاخاً.
ولهذا لا يبدو في الأفق المنظور إمكان للخروج من نفق الحيرة والشك والخوف، ولا التحرر من أوهام الانتقال الديمقراطي، إلى دولة العدالة الاجتماعية التي كثيراً ما تم التطبيل لها خلال الجائحة، فالمؤشرات كلها تؤكد الانجرار نحو التنمية المعطوبة وديمقراطية الواجهة والبلطجة الدولية والمزيد من اللايقين وموت المعنى. ثمة انشدادات إلى الوراء وثمة آمال تنشد بلوغ المشتهى من حقوق وعدالة، وما بين الممكن والمستحيل، يستمر "الاجتماعي" في أداء فاتورة العطب، غالياً من كرامة "المُهَيْمَنِ عليهم" وحقهم في العيش الفضيل. ومع ذلك كله، لن نمنع أنفسنا من الانتصار للأمل والرجاء في أن تكون السنة الجديدة سنة ملأى بالأفراح والمسرات لشرطنا الإنساني المشترك.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.