وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال عن السبب، رغم أن المسلمين حكموا أجزاء كبيرة من شبه القارة الهندية لنحو ثمانية قرون.
بمطالعة سريعة للتاريخ نجد أن التَّماسّ الأول بين الإسلام وشبه القارة الهندية كان مع بداية الفتوحات وانتشار الإسلام عن طريق التجار المسلمين الذي دخلوا أجزاء في ولاية كيرلا جنوباً خلال فترة الخلفاء الراشدين.
ثم اتخذ الحراك الإسلامي تجاه الهند طبيعة الفتح خلال حكم الأمويين، الذين أرسلوا محمد بن القاسم مع نهاية القرن الهجري الأول، الذي تَمكَّن من فتح السند، ثم توالت الفتوحات في العصر العباسي، وتَشكَّل بعض الإمارات الإسلامية هناك، مثل إمارة السند والمنصورة والملتان.
بعد ذلك جاء الغزنويون مع بداية القرن الحادي عشر الميلادي، وتبلور للمسلمين خلال هذه الفترة حكم معرّف في كثير من الولايات والمناطق، وانتشر بشكل أكبر خلال حكم الغوريين ثم الخلجيين ومن بعدهم آل تغلق وغيرهم، وأخيراً المغول المسلمين، لنجد أن "حكم المسلمين" للهند أو لأجزاء كبيرة منها استمرّ حتى بداية الاستعمار الإنجليزي للبلاد منتصف القرن التاسع عشر.
في الوقت الحالي، وفي نظرة إلى ديموغرافيا شبه القارة الهندية المكوَّنة من دول الهند وباكستان وبنغلاديش، نجد أن تعداد السكان فيها يتجاوز 1.7 مليار وفق آخر إحصاءات ويكيبيديا (بنغلاديش 160 مليوناً، وباكستان 220 مليوناً، والهند 1.35 مليار)، يشكّل عدد المسلمين في الدول الثلاث مجتمعة أكثر من الثلث بقليل.
وهنا يثار السؤال الكبير: لماذا لم يدخل الناس في الإسلام أفواجاً في شبه القارة الهندية كما في معظم الدول التي فتحها المسلمون؟
تَعدَّدَت الآراء التي حاولت أن تقدم إجابة عن هذا السؤال، سأسعى هنا لتقديمها بشكل مُجمَل، يتيح للقارئ تشكيل صورة واضحة عن هذه القضية التي تشغل الكثيرين.
دُويلات وإمارات
على مرّ سنوات وجود المسلمين في الهند وقبل ذلك، لم تكن البلاد على شكلها الحالي دولة واحدة تحت راية واحدة، فمع اتساع البلاد ووجود كتل سكانية كثيفة في كل جزء منها، تشكلت ممالك ودويلات وإمارات لا ينظمها عقد حكم واحد.
فكان القول أن الإسلام انتشر بشكل طبيعي في المناطق التي حكمها المسلمون، فيما استعصى ذلك على المناطق التي استحكم فيها حكم الهندوس.
ويظهر ذلك جليّاً في التجمعات الهائلة للمسلمين في باكستان وبنغلاديش وكشمير وشمال الهند وحيدر آباد وبعض المدن في الجنوب، وهذا تفسير مقبول بالنظر إلى كثافة وجود المسلمين في هذه المناطق.
طبقية مستحكمة
لكن يقول رأي آخر إن النظام الطبقي المستحكم في الهند الذي أنتجته الثقافة الهندوسية على مدار قرون، تسبب في حرمان الملايين من الدخول في الإسلام.
فقد قسم هذا النظام المجتمع الهندوسي إلى أربع مراتب أساسية، يحتلّ فيها "البراهما"، وهم رجال الدين، الدرجة الأعلى، ثم يأتي بعدهم "الكشاتريا"، وهم الحكام والمحاربون، ثم التجار والحرفيون "الفايشيا"، وأخيراً "السودرا"، وهم الخدم والعمال.
مهلاً، هناك طبقة خامسة لا تنتسب أصلاً إلى هذا الترتيب، وهي طبقة "الداليت" أو المنبوذين، فجبلّتهم تنحدر بهم إلى مرتبة دون العبيد والحيوانات، وإلى حدّ أن كان الناس لا يلمسونهم، وكانوا يُمنَعون من المشي في ظل أحد من طبقة أعلى منهم.
أنّى لهذا الظلام المسيطر أن يسمح لدين جديد أساسه تكريم الإنسان والعدل بين الناس بالوصول إلى هؤلاء؟ لقد حال هذا النظام الموغل في امتهان الإنسانية دون وصول الإسلام إلى هؤلاء بصورته الحقيقة، وهذا سبب أول.
أما السبب الآخر، فيكمن في أن الداليت أنفسهم رأوا في الإسلام ديناً خاصاً بالطبقات الأعلى، لا تستطيع أنفسهم المجبولة على الشعور بالدونية والامتهان الانتساب إليه، بل إن من الخطورة حتى التفكير بالانتماء إليه، والتحرر من ربقة الامتهان.
وفي المقابل، تأثر كثير من الحكام المسلمين بهذا النظام، واعتبروا -إما لجهل وإما عن قصد- أن هذه الطبقة لا يجدر بها أن تدخل الإسلام، وكان لجهل هؤلاء الحكام باللغة العربية وأحكام الدين أثر سيئ في انتشار الدين بين هذه الطبقات.
سياسة ودين
ويقودنا هذا إلى محور آخر يتعلق بالحكام المسلمين، الذي تداولوا على حكم البلاد، فهناك من يقول إن الهند حُكمت بالمسلمين لا بالإسلام، فكثير من الحكام كانوا حديثي عهد بالإسلام، وغابت عنهم حقيقته ولم يطبّقوا شريعته.
فسارع كثير منهم إلى عقد تحالفات مع النخبة الهندوسية للحفاظ على ملكه، وأعطوا هذه النخب مطلق الحرية في دينهم وإقامة طقوسهم وشعائرهم، ولم يعيروا اهتماماً لدعوة الطبقات الأقلّ شأناً ونشر الدين بينهم، وشكّل الفهم الخاطئ لـ"عدم الإكراه" وسيلة للتخلص من أعباء الدعوة إلى الإسلام.
أما من دخل في الإسلام من السكان، فكان ذلك بفضل العلماء والمشايخ الذين قاموا بدور كبير في الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام، وبجهد فردي دون دعم حقيقي أو اهتمام من الطبقة الحاكمة.
وتروي كتب التاريخ أن أكبر شاه -وهو واحد من أعظم حكام المغول في الهند- حاول إيجاد "عقيدة مشتركة" و"دين جديد" يجمع الثقافات الهندوسية والبوذية والزرادشتية مع الإسلام، سعياً منه لكسب ودّ أتباع هذه الثقافات، لتثبيت سلطانه في البلاد، لكن من أتى بعده من الحكام رفض ما جاء به، وتمكن الحاكم أورنغزيب من إبطال ما ابتدعه أكبر شاه، وسعى لنشر الإسلام وتدوين العلوم والفقه.
اضطهاد طبقي
وهناك قول إن الغالبية العظمى من مسلمي الهند وباكستان وبنغلاديش -من غير المسلمين الفاتحين وطبقة الحكام- أسلموا هرباً من الاضطهاد الطبقي من قبل النخبة الهندوسية، أي إن الإسلام شكّل طوق نجاة لهم، وفرُّوا إليه لحماية أنفسهم.
نقطة أخرى تضاف إلى ما سبق، هي أنه على الرغم من الاختلافات الكبيرة والتناقضات الكثيرة في الثقافة الهندوسية، فإن وجود الهندوس تحت سلطة دينية واحدة تمثلت في رجال الدين في المعابد المنتشرة بشكل لافت في كل مكان، أسهم إلى حد كبير في السيطرة على الأتباع والعامة، ومنعهم من التحول عن دينهم، وفي المقابل تَشتَّت المسلمون بين مذاهب وطوائف وفرق مختلفة، دون وجود سلطة دينية موحدة، إضافة إلى غياب سلطة الحاكم المسلم، مما حال إلى حد كبير دون دخول الناس في الإسلام.
بقي أن نشير إلى دور الاستعمار الإنجليزي الذي عمل على اضطهاد المسلمين، وتقريب الهندوس وتمكينهم، مما كان له أثر كبير في انحسار المدّ الإسلامي في البلاد، وتقويض أركانه، وأوصل المسلمين في الهند إلى ما هم عليه الآن، خصوصاً بعد تقسيم شبه القارة الهندية وانتقال أعداد كبيرة من المسلمين في الهند إلى مشروع دولة الإسلام الجديدة في باكستان وشِقّها الشرقي بنغلاديش.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.