في الوقت الذي بدأ فيهِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارتهُ الرسمية للجزائر، طفت على السطح تساؤلات عن العلاقات المغربية-الفرنسية التي تظهرُ كلما زارت فرنسا أحد البلدان المغاربية، وبخاصة أن العلاقة المغربية-الجزائرية تعيشُ مرحلة حرجة.
ففي الوقت الذي قطع فيهِ المغرب أشواطاً كبيرة في تدعيم قضيته المرتبطة بـ"الصحراء" واعتبارها "النظارة الدبلوماسية" التي ينظر خلالها إلى العالم، واكتساب اعترافات ومواقف دولية داعمة لرؤيته، كان من أبرزها الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، الأمر الذي شكّل فارقاً حقيقياً للمغرب، وشكّل منعطفاً كبيراً في سياسته الخارجية التي بدأت تتعامل بحزم مع الدول الأوروبية التي تقدّمُ مواقف ضبابية في أحسن الأحوال بخصوص هذا الملف، وهو ما تجسد في علاقتهِ مع ألمانيا وإسبانيا اللتين قامتا بالإقرار بالحل المغربي المرتبط بالصحراء، وهو تقدمٌ كبيرٌ في الملف خصوصاً من الجانب الإسباني الذي كان جزءاً من مشهدِ الصراع والذي بدأ معهُ في حقبة الاستعمار.
فالملاحَظ أن الجانب الفرنسي الذي يُفتَرَضُ فيه أنهُ أقربُ شريكٍ للمغرب في أوروبا، لم يقم بأي خطوة بخصوص ملف الصحراء، وذلك رغم إلحاح الدبلوماسية المغربية لاكتسابِ موقفٍ إيجابي من فرنسا بخصوص هذا الملف. إلا أن الجانب الفرنسي ينتهجُ سياسة الإدارة بالأزمات، بدل السعي نحو حلها.
الشاهد هنا أن المغرب استخدام سياسة الحزم مع كلٍّ من ألمانيا وإسبانيا في السنة الماضية، وهو ما جعلهُ يكتسبُ اعترافات من الجانبين بالحل الذي يتناسب مع رؤيته، إلا أن المغرب لم يقطع علاقته مع الجانب الفرنسي رغم فتور العلاقة الذي استمر طويلاً في حقبة ماكرون، التي لا تعربُ عن نفسها إلا في بعض الإشارات مثل تقليلِ عدد التأشيرات الممنوحة من فرنسا للمغاربيين بدرجات متفاوتة يتصدرُ فيها المغرب نسبة التقليص، وكذا موقف المغرب مما يحصلُ بين أوكرانيا وروسيا الذي اختارَ فيهِ الحياد، وهو ما يخالفُ الرغبة الفرنسية المتحيزة للطرف الأوكراني بسبب مصالحها الطاقوية والأمنية المهددة من الجانب الروسي.
هذه الأمور تُعَدّ إشارات تُظهِرُ فتور العلاقة الفرنسية مع دول المنطقة وبخاصة المغرب والجزائر اللذان يُعَدَّان اللاعبين الأكبرين في منطقة شمال غرب إفريقيا.
إلا أن الفتور بدأ الزوال والتلاشي ولو نسبياً في العلاقة التي تجمعُ فرنسا بالجزائر، إذ أزالت هذه الأخيرة قطيعتها مع فرنسا، لترد فرنسا بزيارة الرئيس ماكرون للجزائر كزيارة ثانية بعد توليه الرئاسة، والأولى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى ضوء هذا المعطى فإن الزيارة الفرنسية للجزائر لا يمكنُ فصلها عن المستجدات التي خلّفها الغزو الروسي لأوكرانيا على ملف الطاقة على الأقل.
فأوروبا كما نعلمُ جميعاً تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على الغاز الروسي، هذا الاعتماد يهدّد أوروبا بالتجمد مع اقتراب فصل الشتاء، لذا فهي تسعى لتوسيعِ مصادر التوريد وتنويعها من أجل فكّ الارتباط بينها وبين روسيا بشكلٍ سلس، وهو ما قد تسعى بموجبهِ الجزائر لأخذ موقفٍ فرنسي يدعمُ طرحها بخصوص ملف الصحراء المغربية.
ولكن الواقع يؤكد أن الجانب الفرنسي لا يسعى إلى التصعيد مع المغرب، لأن أي قطيعة بين فرنسا والمغرب ستضرُّ الطرفين في هذه المرحلة الحرجة، وكلاهما يتمتعُ بعقلانية في تدبيرِ شؤونهِ الخارجية، لذا فمن المرجح أن تقود فرنسا مركب العلاقات الثنائية نحو المقايضة بين الاعترافات التاريخية والغاز الطبيعي الجزائري.
وهو بالضبط ما بدأنا نلحظُ ملامحهُ في العلاقة الفرنسية-الجزائرية، إذ أعلن ماكرون في اليوم الأول من زيارته الرسمية للجزائر، إنشاء "لجنة مؤرخين مشتركة" بين البلدين للنظر في كامل الفترة التاريخية منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، بلا تحفظات.
ومقابلَ هذه الخطوة التي قد تنقذُ بعض تاريخ الجزائر من السردية الاستعمارية الفرنسية، فمن المتوقع أن يكونَ الثمن هو الانتفاع من ثروة الجزائر الغازية التي ينظرُ إليها الجانب الفرنسي كموردٍ قريبٍ وعالي الجودة للغاز يمكنهُ أن يساهم بتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
كلا الطرفين لا يتوقعُ مكاسبَ سياسية كبيرة من الآخر، فالجزائر تعرفُ أن فرنسا لن تقدمَ للجزائر ما تسعى لهُ بخصوص ملف الصحراء، ولا الجزائر مستعدة لتقديم منافع سياسية كبيرة مثل دعم الملفّ الأوكراني أو دعم الطرح الفرنسي في غرب إفريقيا، وذلك بحكم أن الجزائر تجسدُ مثالاً لبقاء مخلَّفات المعسكر الشرقي الذي جمع الجزائر بالاتحاد السوفييتي ووريثه الشرعي روسيا، هذا الإرث جعل الجزائر تستهلكُ 30% من واردات الأسلحة الروسية المتجهة نحو إفريقيا جنوب الصحراء، فروسيا تزود الجزائر بـ67% من مشترياتها للأسلحة، وذلك وفقاً لأرقام المعهد الدولي لأبحاث السلام (Sipri).
في المقابل، حرص الجانب المغربي أن يبرمج زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك للمغرب في نفس وقتِ زيارة فرنسا للجزائر، إذ أكّد البيان المشترك بين المغرب وألمانيا، تمسُّك الطرفين بالحل المغربي المتمثل بمقترح الحكم الذاتي الذي تطرحه المملكة كـ"قاعدة جيدة" لحل نزاع الصحراء.
كما كان المغرب قد استقبل في ما سبق رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بعد إعلان دعم إسبانيا لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء. وكلتا الزيارتين أنهت أزمة دبلوماسية بين المغرب وإسبانيا وألمانيا على التوالي استمرت قرابة عام.
من هنا يمكن تصوُّر كيف أصبحت الصحراء الباروميتر الذي يزن فيه المغرب سياسته الخارجية، وهو ما ستفهمه فرنسا عاجلاً أو آجلاً. فالمغرب على ما يبدو ذهب باتجاه المفاصلة بموضوع الصحراء وأن الحلول الوسط أصبحت من الماضي.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.