تابعنا
تملك النخبَ السياسيّة الإسرائيلية القناعة وما يفوق الثقة بالنفس بأنها ليست من الدول الصغرى التي ينبغي عليها بناء سمعتها السياسية والالتزام بقواعد القانون الدولي. لماذا هذا "الكِبْر"؟

منذ عام 1948، لم تكشف حقبة من حقب الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي نقداً شديداً لطغيان قوة الجبروت، وما يُقدم عليه من تجاهل قيم الفضيلة السياسية وفلسفة القانون الدولي، كما تكشف السجالات الحادّة في وقتنا الراهن.

تتركّز أنظار الرأي العام العالمي ونقاشات الإعلام الجديد على دواعي سلوك إسرائيل العدواني ومغالَاتها في استخدام القوة خارج أحكام القانون الدولي.

ويتساءل عن كيفية هندستها لاستثناء يخصّها خارج مقتضيات المسؤولية والعدالة الدولية وضوابط الإنسانية، من دون أن يكبح جماحَها حلفاؤها الأقربون.

ولماذا تتجند العواصم الغربية -بخاصة واشنطن ولندن- منذ 1947 لاستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، لتجعلها في حِلٍّ من كلّ مسؤولية ومتابعة قانونية بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وقوانين المحكمة الجنائية الدولية؟

"فزاعة المحرقة" ومفارقات الغرب

تعمل إسرائيل على تدجين الغرب باستعمال "فزّاعة" المحرقة النازية في الأربعينيات من القرن الماضي، وتشدّد على أن منح اليهود وطناً بديلاً على حساب الفلسطينيين، لتكفير الذنب الغربي في حق اليهود، ليس كافياً.

ورسّخت فكرة أنّ من مسؤولية الغرب توفير الحماية الأمنية والدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي لإسرائيل في كل موقف، سواء أكانت ظالمة أو مظلومة.

ومنذ اندلاع حرب غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كشفت سجالات النخب السياسية المؤيدة والمنتقدة لإسرائيل، وفي أوساط نشطاء المظاهرات الشعبية في عواصم القارات الخمس، شدّة هذا التوجه.

وأظهرت هذه السجالات عدداً من الوقائع التاريخية والاعتبارات السياسية التي جعلت المتطرفين الإسرائيليين -بخاصة حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير- يمثلون قوة الدفع الرئيسة في حكومة يمينية متطرفة يقودها بنيامين نتنياهو.

كذلك كشفت عن أنه ليس بوسع نتنياهو تحجيم وزرائه المتطرفين، إذ لم يجرؤ على إقالة ومحاسبة الوزير عميحاي إلياهو الذي اقترح إلقاء قنبلة نووية على سكان غزة.

وتكمن المفارقة الثانية في أن دول الغرب التي رسّخت في بلدانها مستويات من العلمانية واللائكية، وسنّت قوانين تفصل الدين عن الدولة، هي من تدافع عن سياسة تشاء أن تكون هناك دولة دينية لليهود من دون غيرهم، وهذا تعارض صارخ مع مبادئ الحداثة السياسية وفلسفة التنوير القائمة على التعددية والمواطنة المتكافئة.

لكنّ المفارقة الثالثة، وهي الأكثر انحرافاً عن فلسفة الأمم المتحدة وميثاق تأسيسها بموجب اتفاقية سان فرانسيسكو عام 1945، تشكّل صلب موضوع هذه المقالة، وتطرح تصوراً عن كيفية بناء إسرائيل لنفسها سابقة تاريخية، عندما استخدمت شتى جماعات الضغط السياسي والفكري منذ عام 1947، لاستصدار قرار التقسيم في الأمم المتحدة وما تلاه من خروج عن صف العدالة الدولية.

تأسيس ضد العدالة

في مثل هذا اليوم قبل ستة وسبعين عاماً، دعت الجمعية العامة لعقد "دورة استثنائية بناء على طلب السلطة المنتدبة لتأليف لجنة خاصة، وتكليفها الإعداد للنظر في مسألة حكومة فلسطين المستقلة في الدورة العادية الثانية".

وقد أُلّفت لجنة خاصة، مهمتها التحقيق في جميع المسائل والقضايا المتعلقة بقضية فلسطين، وإعداد مقترحات لحل المشكلة.

وأقرّت الجمعية العامة بأن "من شأن الوضع الحالي في فلسطين إيقاع الضرر بالمصلحة العامة والعلاقات الودية بين الأمم، وتأخذ علماً بتصريح سلطة الانتداب بأنها تسعى لإتمام جلائها عن فلسطين في 1 أغسطس/آب 1948".

حينها أوصت المملكة المتحدة بصفتها السلطة المنتدبة على فلسطين، وجميع أعضاء الأمم المتحدة الآخرين، فيما يتعلق بحكومة فلسطين المستقلة، بتبني مشروع التقسيم والاتحاد الاقتصادي.

وطلبت أن "يتخذ مجلس الأمن الإجراءات الضرورية، كما هي مبيّنة في الخطة، من أجل تنفيذها"، وأن "ينظر مجلس الأمن -إذا كانت الظروف خلال الفترة الانتقالية تقتضي مثل ذلك النظر- فيما إذا كان الوضع في فلسطين يشكل تهديداً للسلم".

فإذا قرر مجلس الأمن وجود مثل هذا التهديد وجب عليه، في سبيل المحافظة على السلم والأمن الدوليين، أن يضيف إلى تفويض الجمعية العامة اتخاذ إجراءات تمنح لجنة الأمم المتحدة سلطة الاضطلاع في فلسطين بالمهمات المنوطة بها في هذا القرار، تماشياً مع المادتين 39 و41 من الميثاق.

وكذلك أن "يعتبر مجلس الأمن كل محاولة لتغيير التسوية التي ينطوي عليها هذا القرار بالقوة تهديداً للسلام، أو خرقاً له، أو عملاً عدوانياً، وذلك حسب المادة 39 من الميثاق".

تبنت الجمعية العامة قرار التقسيم رقم 181 بتأييد 33 دولة، ومعارضة 13 دولة، فيما امتنعت عن التصويت 10 دول.

واتخذت الأمم المتحدة ثلاثة قرارات أخرى مهمة، منها القرار 194 بشأن حق العودة 11 ديسمبر/كانون الأول 1948، والقرار 302 بخصوص إنشاء الأونروا 8 ديسمبر/كانون الأول 1949، والقرار 372 حول الاعتراف بإسرائيل 11 مايو/أيار 1949.

بيد أن أهمية القرار 181 والتباين الكبير بين أصوات الدول المؤيدة والدول المعارضة، كان أول إنجاز حققه التحالف الإسرائيلي الغربي داخل منصات الأمم المتحدة.

وقد منح القرار النخبَ السياسيّة الإسرائيلية القناعةَ وما يفوق الثقة بالنفس بأنها ليست من الدول الصغرى التي ينبغي عليها بناء سمعتها السياسية والالتزام بقواعد القانون الدولي.

وبهذا تشبّعت تلك النخب منذ بن غريون وغولدا مايير، وصولاً إلى شارون ونتنياهو، بأنه مادامت المصلحة الاستراتيجية الغربية هي التي أسّست "دولة إسرائيل" في بيئة عربيّة غير مرحِّبة، فعلى هذا الغرب أن يجتهد في تبرير سلوكياتها كافة وحتى رذائلها السياسية عند استهداف الأطفال والنساء وتجويع المدنيين وممارسة سياسة الإبادة الجماعية.

وأصبح يوجد دستور عرفي إلزامي داخل العواصم الغربية يعطّل إجبارية مراعاة دساتيرها الوطنية، وعنوانه "ضرورة ضمان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في كل حال من الأحوال".

سرقات موصوفة

من تجلّيات هذا الكِبْر الإسرائيلي المتشبع بأطروحة الصهيونية، ومقولة "شعب الله المختار"، نقلُ إسرائيل مقر الكنيست الإسرائيلي من تل أبيب إلى القدس في ديسمبر/كانون الأول 1948، وعقدُها أولى جلساته في فبراير/شباط 1949، رغم أن القدس مصنفة "كياناً منفصلاً" (Corpus Separatum)، أي مدينة ذات إدارة ذاتية، وهذه من أولى المخالفات المتعمدة للقرار الدولي 181.

وبعدما أدى الرئيس الإسرائيلي اليمين في القدس، أصدر مجلس الوصاية (الأممي) قراراً يؤكد أن هذه الإجراءات "تتعارض مع قرارات الجمعية العامة ويدعو إسرائيل إلى إبطالها"، لكن ازدادت اللامبالاة الإسرائيلية وأعلن الكنيست أن "القدس عاصمة لإسرائيل، وبدأت الدولة تنقل العديد من المكاتب الحكومية إلى المدينة" منذ 23 يناير/كانون الثاني 1950.

وبعد 17 عاماً، وقعت حرب طاحنة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، واجتاح الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية والضفة الغربية والجولان.

وتبعثرت بالتالي أوراق استراتيجية عدة بين الأطراف، وازدادت المخاوف بانزلاق المنطقة نحو تصعيد مستمر بعد ظهور حركة فتح وعدد من الفصائل التقدمية في المعسكر الفلسطيني، ليتبنّى مجلس الأمن في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 القرار 242 وغايته "إقرار مبادئ سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط".

كان المجلس صريحاً في معارضته عملية الاحتلال، إذ "يؤكد عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب، والحاجة إلى العمل من أجل سلام دائم وعادل تستطيع كل دولة في المنطقة أن تعيش فيه بأمن، ويؤكد أيضاً أن جميع الدول الأعضاء -بقبولها ميثاق الأمم المتحدة- قد التزمت بالعمل وفقاً للمادة (2) من الميثاق".

وأضاف مجلس الأمن برؤية عمليّة كيف يمكن "تحقيق مبادئ الميثاق الذي يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين، الأول سحب القوات المسلحة من أراض (الأراضي) التي احتلتها في النزاع، والثاني إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب، واحترام واعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة، ومعترف بها، وحرة من التهديد وأعمال القوة".

غياب المشروعية القانونية

تلت هذه المرحلة المحوريّة في الصراع من أجل الحق الفلسطيني مراحل تميّزت بحروب ونزاعات كرّست من عدم اكتراث الإسرائيلي بالحق الفلسطيني والمشروعية والقانون الدوليين، من حرب أكتوبر إلى الانتفاضتين، وتفكيك مسار أوسلو، مع ما واكب ذلك من دعم أمريكي لإسرائيل.

وفي ظل هذه السياقات السياسيّة في الأمم المتحدة وانغماس النخب السياسية الغربية في "قداسة" الأمن القومي الإسرائيلي أكثر من حرصها على أمنها القومي، يمكن أن نستخلص مسألتين أساسيتين.

الأولى أن عضوية الأمم المتحدة وجلسات وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة مجرد أدوات وظيفية حسب تقدير حكومات إسرائيل، تنادي بها متى تشاء وترى فيها مصلحة استراتيجية آنية، أو ترمي بها عرض الحائط ولا تشعر بلحظة قلق أو تشنج بوجود الرفيق الأكبر "الولايات المتحدة".

ثانياً، لا يأتي اعتماد الجبروت العسكري وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء في غزة من جموح شارد، وإنما من قناعة حكومة الحرب حول نتنياهو بأن على الغرب أن يهندس منطقاً مناسباً وعقلانية أخرى، من قبيل "الحق في الدفاع عن النفس"، لإقناع العالم بأن ما تفعله في غزة "رد فعل منطقي وعقلاني لا غبار عليه".

عندما يبلغ جنون العظمة ذروته وحيثما تمتد خيالات القوة في إقصاء الآخر الضعيف إلى حدود الاعتداد المطلق بالذات، ينجرف الحكم على الأمور إلى ضعف البصيرة وسوء التقدير.

وكم من قوة عاندت تضخّم أنَفَتها وجبروتها، فضاعت منها البوصلة. وعدم فهم أن للقوة حدوداً يؤدي إلى بدء عملية التآكل من الباطن.

لقد وصل نتنياهو وجنرالات حكومة الحرب إلى مرحلة الانحباس الاستراتيجي، وليس من السهل أن يتخلّوا عن خطاب القوة؛ لأنهم محاصرون في خطاب العظمة و"الجيش الذي لا يُقهر" وبقية أساطير التفوق والتفرّد.

وبالتالي، لا يستطيعون قبول القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ويرفضون التحول إلى خطاب المفاوضات وتبادل الرهائن بالأسرى وحتمية وقف إطلاق النار ولا يخضعون لها إلّا مجبرين، فيما يظل سكان غزة عصيّين على الموت الجماعي أو الترحيل الجماعي أو الاندثار الجماعي، فهم من الأرض وبها مُتمسّكون ومعهم شرعية القانون الدولي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً