لم تكَد تنتهي مرافعة الوفد الجنوب إفريقي أمام محكمة العدل الدولية في قضية اتهام إسرائيل بالتورط في إبادة جماعية تجاه سكان قطاع غزة حتى ارتفعت الأصوات المحتفية بالخطوة التاريخية للدولة الإفريقية ذات التاريخ الكبير في النضال ضد الفصل العنصري، الذي أظهرت جنوب إفريقيا أنه نضال لا يتوقف عند حدودها وعند أي حدود، بل يصل إلى الصدام مع دولة هي في حقيقتها موقع متقدم للولايات المتحدة الأمريكية.
تستحق جنوب إفريقيا كل هذا الاحتفاء وأكثر، فالصوت القادم من عمق القارة السمراء لا تتردد أصداؤه في فلسطين وحدها، وإنما يصدح في العالم أجمع بأن ثَم نضالاً إنسانياً ضد القوى العنصرية والاستغلالية في العالم لا يتوقف عند ثنائيات الغرب والشرق والصدامات الحضارية والهوياتية التي تشرئب عند احتدام الصراعات في تلك القضايا.
لكن الاحتفاء بجنوب إفريقيا لا ينبغي أن يشغلنا عن استحضار الجهد الهائل الذي بذلته المقاومة الفلسطينية لبناء الجسور مع جنوب إفريقيا وربط النضال المشترك ضد العنصرية العرقية بمختلف أشكالها، وهو الجهد الذي كانت إحدى ثماره هذا الدور الذي تلعبه جنوب إفريقيا اليوم.
حماس وحزب المؤتمر الإفريقي
منذ السبعينيات مدّت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات يدها إلى حزب المؤتمر الإفريقي في نضاله ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مستفيداً من التناظر بين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلة عام 1948 أو الأراضي المحتلة عام 1967، ومستفيداً كذلك من السعي المشترك في ذلك الوقت لحشد دعم دولي من الأمم المتحدة لصالح القضيتين.
لم ينسَ نيلسون مانديلا تلك اليد الفلسطينية قط، وقد عمل على توجيه الدعم باستمرار إلى عرفات، لكن هذا الدعم قد اقترب من طريق مسدود بعد وفاة عرفات وتحولات حركة فتح.
في المقابل بدأت حركة حماس محاولات الاتصال بجنوب إفريقيا بعد 4 أعوام فحسب على تأسيس مكتبها السياسي سنة 1991، وذلك من خلال لجنة في السودان على رأسها الدكتور موسى أبو مرزوق، أول رئيس للمكتب السياسي للحركة، ثم نائب رئيسها منذ 1995.
حسب ما يروي أبو مرزوق في مذكراته، فقد قامت العلاقات في ذلك الوقت على مستوى دبلوماسيي جنوب إفريقيا في المنطقة، وعلى رأسهم محمد دانغور سفيرها في دمشق، وكذلك على مستوى الاتصال بالجالية المسلمة في جنوب إفريقيا، وعلى رأسها مولانا إحسان هندركس وإبراهيم جبرائيل ومرشد ديفيز.
تكلّلت تلك المرحلة بفتح فرع في جنوب إفريقيا لمؤسسة الأقصى الإسلامية التي يقع مقرها في آخن بألمانيا، لكن تلك المؤسسة قد جرى إغلاقها في عام 2002 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لعلاقتها بالإخوان المسلمين، كما شهدت تلك المرحلة تأسيس مركز لدراسات الشرق الأوسط في جنوب إفريقيا سنة 1998.
كما حاولت الحركة أن ترتب زيارة للشيخ أحمد ياسين إلى جنوب إفريقيا ضمن جولته التي تلت إطلاق سراحه عام 1996، إلا أن الزيارة لم تحدث بسبب تدخل الرئيس الراحل ياسر عرفات لمنعها في إطار الخوف من المنافسة المحتدمة بين حركتَي فتح وحماس.
لكن السنوات التالية شهدت فتوراً في العلاقة بسبب التردد الأمني في جنوب إفريقيا تجاه استقبال وفد من الحركة، خصوصاً في ظل الأوضاع المضطربة التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول واشتعال الانتفاضة الثانية، وانعكاس ذلك على كل أشكال العلاقات الرسمية مع الحركات الإسلامية، خصوصاً حركة حماس التي تخوض كفاحاً مسلحاً ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
رغم ذلك حدث تطور مهم في ذلك الوقت، هو لقاء رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل مع خاليما موتلانتي نائب الرئيس الجنوب إفريقي، في دمشق سنة 2009، وهو اللقاء الذي تكلل بمؤتمر صحفي مشترك، ما فتح طريقاً أمام بناء علاقة رسمية بين الحركة والحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، وهو ما حدا بالحركة إلى إرسال اثنين من كوادرها السياسية ذات الخبرة في العمل الدبلوماسي، وهما محمد نزال وأسامة حمدان، لبحث السبل لتعزيز الاتصال وترتيب زيارة رسمية لوفد من الحركة إلى الحزب الحاكم في البلاد.
تُوّجت محاولات حماس في جنوب إفريقيا بزيارة قام بها وفد رفيع المستوى من الحركة بقيادة رئيسها خالد مشعل في أكتوبر/تشرين الأول 2015 إلى كيب تاون، ولقي وفد الحركة استقبالاً رفيع المستوى على رأسه الرئيس يعقوب زوما.
كان على حماس أن تقدّم أوراقها لحزب المؤتمر الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا، وكانت الحركة فعلاً جاهزة بذلك، إذ فتحت قنوات اتصال بين الحزب والجالية الإسلامية في كيب تاون لتأمين نجاح الحزب في الفوز بتلك المحافظة التي يمثل البيض أغلب سكانها، كما شجع مشعل قطر على زيادة استثماراتها في جنوب إفريقيا، وهو ما تحقق عام 2018 باستثمارات مشتركة تصل إلى 13 مليار دولار، وجرى ترتيب زيارة متبادلة بين الرئيس الجنوب إفريقي يعقوب زوما وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني.
وفي المقابل كان حزب المؤتمر في جنوب إفريقيا سخياً مع الحركة، إذ لم يكتفِ بعقد مذكرة تفاهم بين المنظمتين، بل ربط علاقات جنوب إفريقيا بالأطراف الفلسطينية بعلاقته بحماس، وسمح للحركة بالحضور في جنوب إفريقيا عبر مؤسسة رسمية هي المنتدي الإفريقي-الفلسطيني (أفروبال)، الذي سمح للحركة بتعميق نشاطها في البلاد، خصوصاً نشاطها الإعلامي، وترتيب لقاءات وطنية مع الفصائل الفلسطينية هناك، وحرية النشاط لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS).
وما هو أبعد من ذلك هو نشاط جنوب إفريقيا في القارة لتأمين دعم القضية الفلسطينية، وهو ما ظهر في تأمين عدد كبير من أصوات المجموعة الإفريقية ضدّ قرار مطروح في الجمعية العامة لإدانة حركة حماس عام 2018، وكذلك في إبعاد عدد من الدول الإفريقية عن المشاركة في مؤتمر توجو (إسرائيل-إفريقيا).
الخروج من الثنائيات
بينما تخطف المقاومة المسلحة في قطاع غزة الأنظار بأدائها العسكري الذي فاجأ المحلّلين كما فاجأ الجماهير في مواجهة الجيش الإسرائيلي، تُبرز مسيرة بناء الجسور مع جنوب إفريقيا مسارات المقاومة المتعددة التي لم تكن موازية لبناء القدرات المسلحة فحسب، وإنما ضرورية لإمدادها وتحقيقها، كما تنفي تلك المسيرة الاتهامات الجزافية لحركة المقاومة الفلسطينية عموماً، وحركة حماس خصوصاً، بالاندفاع نحو المقاومة المسلحة من دون اعتبار أشكال المقاومة والصمود السلمية.
إذن تجلو تلك التجربة طبيعة المقاومة المركبة، فهي ممارسة تشمل من جهةٍ تعزيز الصمود الفلسطيني وحماية المجتمع الفلسطيني من أشكال التردي والاندثار الناجمة عن الممارسات الاستعمارية الإحلالية التي تنتهجها إسرائيل، عبر بناء مؤسسات هذا المجتمع ومساعدته على القيام بوظائفه، لكنها تتضمن كذلك بالضرورة تدفيع الاحتلال ثمن جريمته ووجوده الاستيطاني الإحلالي على حساب الوجود الفلسطيني.
يعتمد كلا شكلَي المقاومة بعضهما على بعض، فالمقاومة المسلحة تتطلب لبناء قدراتها تعزيز إمكانات الشعب الفلسطيني المادية والمعنوية، كما أن المقاومة الشعبية السلمية تتطلب شروطاً معيشية لا يمكن أن تتوفر إلا بضغط على الاستعمار الإسرائيلي لتوفيرها، ليس بدوافع إنسانية في الحقيقة، وإنما أملاً في تخفيف فاتورة المقاومة المسلحة التي على الاحتلال دوماً أن يدفعها حال إغلاقه سبل الحياة على الشعب الفلسطيني.
تمثل تجربة حماس في جنوب إفريقيا خروجاً من ثنائية المقاومة المسلحة أو المقاومة الشعبية السلمية التي يصطنعها خصوم المقاومة أحياناً لخلق تناقض مزيف بين الشكلين، كما تمثل خروجاً من ثنائية أخرى هي ثنائية الهويات المتصارعة.
كانت معركة غزة واستجابة الحكومات الأوروبية والأمريكية الداعمة لإسرائيل من دون قيد أو شرط فرصة لصعود الدعوات الهوياتية عن صراع حضاري على أساسٍ دينيٍّ محض بين الشرق والغرب.
وتؤدي تلك الدعوات إلى نوعين من الأخطاء، الأول هو خطأ تحليلي، إذ تغفل تلك الدعوات الأبعاد المركبة لهذا الصراع، مثل المصالح الرأسمالية والتنافس الجيوبوليتيكي، إلى جانب الصدام الثقافي بالتأكيد والرؤى العنصرية الكامنة لدى قطاعات في أوروبا والولايات المتحدة تجاه العرب والمسلمين وكثير من شعوب الجنوب عموماً.
أما الثاني فهو خطأ قيمي، إذ تحوّل تلك الدعوات الصراع إلى صدام هويات تحاول كل هوية فيه أن تمحو الأخرى، وليس صراعاً إنسانياً بين قوى استعمارية وشعوب تسعى لحقها في العدل والحرية.
ما نراه اليوم هو على النقيض من ذلك، إذ تتحرك شعوب وحكومات تفصلها عن فلسطين مئات الأميال الثقافية، وليس الجغرافية فحسب، كبوليفيا وحكومتها الاشتراكية وجنوب إفريقيا وكثير من مكونات اليسار الأوروبي، لتقديم دعم فعال للمقاومة الفلسطينية، فيما ينشغل ملايين من العرب والمسلمين بمحافل فنية ورياضية هامشية عن أي التزامات دينية أو قومية تجاه القضية الفلسطينية.
ما تقوم به جنوب إفريقيا اليوم وشركاؤها في قضية محكمة العدل الدولية هو إعادة تعريف للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تضعه في موضعه العالمي بوصفه صراعاً تتكثف فيه نضالات شعوب العالم ضد عنصرية واستغلال نخب عديدة تقدم دعماً مفتوحاً لإسرائيل لأنها جزء من المنظومة الدولية التي تحمي مصالحهم.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.