تشكيلات عسكرية من الجيش الإثيوبي (Uncredited/AP)
تابعنا

بل إن آخر الحلول التي قدّمها رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي كان في تقسيم البلاد إلى أقاليم تستوعب أعراقها ولديها حكوماتها المنتخبة وبرلماناتها الخاصة، في اعتراف جريء منه بهذه الأزمة التي حوّلها إلى حلّ يرضي الأطراف مع تعزيز قوة المركز، وهي التجربة التي رأت فيها الأحزاب المكوّنة لحزب الازدهار الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد أنها تحتاج إلى ترويض وتعديل باستعادة قوة المركز وسيطرته على الأطراف من جديد، وهي بداية الأزمات الكبرى التي ضربت إثيوبيا التي كانت تحلم بقيادة إفريقيا أو محيطها الشرقي والأوسط على أقلّ تقدير.

وبانفجار هذه الأزمة عقب الإخماد المؤقت لقوى حكام إثيوبيا السابقين من قومية التيغراي، ثم اندفاع معاكس لقوات هذه القومية المدرَّبة والمؤهلة نحو استهداف الحكومة المركزية واتساع شبكة تحالفاتهم المسلحة مع بعض الأطراف من قومية الأورومو الكبيرة وبني شنقول وقُمُز وبعض العرقيات الأقلّ عدداً، وشعور قوميات كبيرة أخرى مثل الأمهرا باستهداف التيغراي لهم فإن هذه الحرب أشعلت روح العصبية القومية من جديد في إثيوبيا، وضربت النسيج الاجتماعيّ الهشّ مجدّداً، وهي عصبية عنيفة لا عقل لها حين تنفلت من عقالها.

في مثل هذه الظروف يقتنص الراصدون والمترقبون الفرصة لحماية أنفسهم من تداعيات هذه الحرب المتطاولة، فيما يسعى آخرون إلى تحقيق اختراقات لمصالحهم فيها، ويسعى فريق ثالث إلى زيادة أعماق الشرخ الاجتماعي وصولاً إلى تفكيك هذه الدولة إلى كيانات أصغر يسهل التعامل معها بحسابات أقل بكثير من التعامل مع إثيوبيا الموحدة القوية.

إريتريا على سبيل المثال قرّر رئيسها أن يقف بكامل قوته وراء آبي أحمد لأن بلاده التي تشترك حدودها الجنوبية مع حدود إقليم التيغراي الشمالي تعلم أن التيغراي كانوا وراء الاحتلال الإثيوبي لإريتريا لعقود طويلة قاسية رغم كل المشتركات الدينية والعرقية بين التيغراي في إريتريا وفي إثيوبيا.

فأسندت قواتُ أفورقي حليفَها الإثيوبي في أديس أبابا بتغطية كاملة على طول الحدود مع إقليم التيغراي، وساعدته على قطع الطريق على التيغراي لفتح خط اتصال جغرافي مع السودان الذي يمكن أن يكون مدخل إمداد وساحة إخلاء خلفية يتسرب إليها اللاجئون والمتضررون وعائلات جبهة التيغراي بالملايين كما اعتادوا من قبل فيخففون الضغط عن جيش تحرير شعب تيغراي بخروجهم، فانتشرت قوات إريترية كبيرة في مواقع حدودية إثيوبية مع السودان.

كما أن القوات الإريترية الخاصة تحمي مواقع استراتيجية مهمة في مناطق اشتباك حساسة قد ينشغل عنها الجيش الإثيوبي في ذروة اشتباكه، ومن اللافت أن القوى الإريترية غير الرسمية المعادية للتيغراي تعيش في حالة تناقض حادة، فهناك قوى إريترية ترى في التحالف مع آبي أحمد مصلحة وطنية تمنع عودة التيغراي إلى حكم إثيوبيا بخاصة أن التيغراي يهدّدون باجتياح أسمرة بعد أديس أبابا، فيما يرى آخرون أن إثيوبيا بغض النظر عن قيادتها أعداءٌ لإريتريا، وأن إثيوبيا الرسمية لا يزال لها أطماع أكيدة في إريتريا لا تخفيها السياسات ولا العقائد المكوّنة للنظام السيادي الإثيوبي.

السودانيون أيضاً الذين باتت طموحات إثيوبيا "العظمى" و"العرقية" تؤثّر في مصالحهم من خلال استفراد إثيوبيا بملف سدّ النهضة على حسابها وعلى حساب مصر رغم الكثير من المشتركات السودانية-الإثيوبية في هذا الملف، وإصرار الحكومة الإثيوبية على تغطية تجاوزات قومية الأمهرا المتحالفة معها في احتلال الأراضي السهلية الخصيبة في الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى، وتغطية تجاوزات عصابات الشفتة ضد المزارعين السودانيين وتأمين تحركاتهم داخل الأراضي الإثيوبية وعدم التعامل بجدية مع ملف هذه العصابات الخطيرة الكبيرة، إضافة إلى عدم اهتمام إثيوبيا بتداعيات سياساتها الداخلية في أقاليمها على دول الجوار، التي تؤدي غالباً إلى موجات نزوح كبيرة دون تقديم أي مساعدات إثيوبية أو المبادرات بإجراءات لحل أزمة عشرات الآلاف منهم منذ مدة طويلة، وتعاظم النفوذ الاستخباري الإثيوبي داخل السودان ووصوله إلى التأثير في أحزاب وقوى سياسية ومجتمعية سودانية.

ولعل هذه الأزمة الكبيرة في إثيوبيا قد أسهمت بقوة في تخفيف الضغوط الدولية على السودان بعد أن اتخذ الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد الأعلى للجيش قرارات سيادية عسكرية أطاحت برئيس الوزراء عبد الله حمدوك والشراكة مع بعض مكونات الحرية والتغيير بعد أزمة سياسية متصاعدة؛ وكانت الحسابات الدولية والإقليمية تخشى من أن انفراط الأمن والاستقرار في السودان سيؤدي إلى انفجار منطقة القرن الإفريقي المشتعلة بالأحداث الكبيرة وبالأزمة اليمنية القريبة.

كما ستدفع بقوى موسومة بالإرهاب وتجارة السلاح والمخدرات والذهب وتجارة البشر إلى التمدد إلى شمال السودان وشرقه لتهدّد أمن البحر الأحمر ومصر والسعودية، وزيادة منسوب التوتر في ليبيا وتشاد والنيجر ومالي وإفريقيا الوسطى وجنوب الصحراء التي تنعكس أحداث السودان عليها مباشرة بسبب المشترك السكّاني القبليّ والاتصال الجغرافي بين هذه البلدان.

وهناك مصر التي تنظر بعدة حسابات إلى الأزمة الإثيوبية، فمع أن ظاهر الأمر يوحي بأن سد النهضة سيكون أحد ضحايا هذه الأزمة الداخلية الإثيوبية فإن الحقيقة المرة أن هذا السد يحظى تشييده بإجماع داخلي إثيوبي، مما سيعسّر مهمة إقناع أي طرف إثيوبي بالعمل على إنهاء هذه القضية ومعالجتها بأيّ وسيلة مقابل دعم تكتيكيّ أو طويل الأمد، والخطورة الكبرى أن تداعيات هذه الحرب قد تصل بسرعة إلى مصر، بخاصة إذا نزح الملايين من الإثيوبيين القرويين إلى السودان الذي لا يحتمل موارده بقاءهم، فيُضطرّ الآلاف من شبابهم إلى الهجرة إلى ليبيا ومصر بحثاً عن السواحل التي توصّلهم إلى أوروبا.

وتشترك "إسرائيل" مع مصر في تخوفاتها من هذا النزوح المتوقَّع، إذ إن "إسرائيل" تُعَدّ هدفاً للاستقرار لدى طائفة كبيرة من الإثيوبيين رغم أنها لا تتعاون في ترسيم أوضاعهم القانونية واعتبارهم لاجئين رسميين، كما أن إسرائيل هدف جاذب لكل القوى التي تستفيد من حالات الفوضى والفراغ الأمني في محيطها.

والصومال أيضاً في حالة من الحيرة الشديدة بسبب تضارب المصالح، فالرئاسة الصومالية تُعَدّ من حلفاء آبي أحمد، وتشارك إثيوبيا بقوات مهمة تساند في مواجهة المد المتزايد لحركة الشباب المجاهدين، ولكن قطاعات من الإقليم الصومالي في إثيوبيا ترى أنها لا تنتمي إلى إثيوبيا وأن مكانها الطبيعي مع الصومال، ولهذا تنشط مجدداً حركة تحرير أوغادين على خلفية الخشية من استعار الحرب وامتداد أثرها إلى إقليمهم، بخاصة أن جيرانهم في إقليم العفر يتعرضون لهجوم مركَّز من التيغراي، وهناك حديث متزايد عن مجازر وانتهاكات جسيمة في حقوق الإنسان، وهذا الهجوم على العفر يثير قوميتهم المشتتة في إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا والصومال، ويدفعها إلى إثارة حميَّة حماية قوميتهم من الإبادة في إثيوبيا.

وكثيراً ما عانى الصومال وجيبوتي من استغلالها كمحطة عبور لأعداد كبيرة من اللاجئين الفارّين إلى سواحل اليمن عبر زوارق صيد صغيرة أملاً بالوصول بعد ذلك إلى السعودية أو عُمان.

جنوب السودان أيضاً ينظر بحذر شديدة إلى انتقال الأحداث إلى أرضه المحاذية لإثيوبيا من الشرق حيث توجد قبائل مشتركة، لا سيما أن الأمن ما زال هشّاً في دولة الجنوب الفقير، وهناك مخاوف كينية وأوغندية لا تقلّ عن مخاوف الآخرين.

وفي العموم فإن أزمة الحرب الأهلية في إثيوبيا ذات أثر ثقيل في هذه المنطقة التي لا ترتاح من أزمات عدم التعايش بين مكوناتها، ولم تجد صيغة صالحة مجرّبة تفكك عقدة الصراع، وتعيد نسجه على منوال آمن يقبله الجميع برضا أو إكراه.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً