وقد جاءت هذه السنة بطعم علقمي مر مرارة خيبة الأمل التي يشعر بها المواطنون وبخاصة فئة الشباب، بسبب ضعف قدرة المنظومة السياسية الجديدة على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي زادتها الأزمة الصحية التي تسببها الكورونا تفاقماً.
وبغض النظر عن الاستهداف الذي يتعرض له مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، وعن الأجندات الدولية والإقليمية ذات المصلحة في إرباك الأوضاع، وإنهاء التجربة، وغلق قوس الديمقراطية في المنطقة العربية، فضلاً عن الأجندات الداخلية ذات الارتباطات المشبوهة والعاجزة عن كسب ثقة الشعب، وعن عمليات التضخيم الإعلامي الممنهج للاحتجاجات، وعن محاولات توظيفها والركوب عليها بشكل شعبوي ممجوج لم يجد تجاوباً واسعاً من كل الفئات المجتمعية والعمرية.
بغض النظر عن كل هذا وغيره كثير طيلة العشرية المنصرمة وهو مستمر ولن يتوقف، فإن الأزمة حقيقية ومستفحلة اقتصادياً، وتزداد تعقيداً مع توسع التأثيرات السلبية لجائحة كورونا صحياً إذ ارتفعت حصيلة الإصابات اليومية أثناء الموجة الثانية إلى ما يفوق ألفَي إصابة، والوفايات ارتفعت إلى ما يقارب مئة، وباتت تونس الثانية في إفريقيا من حيث عدد الإصابات، ولا توجد مؤشرات ايجابية على إمكانية انكسار الموجة في ظل غموض رسمي حول موعد الحصول على اللقاح والانطلاق في التطعيم.
لقد انعكس الوضع الصحي على الوضع الاقتصادي بشكل مباشر بخاصة في العلاقة مع المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة والقطاعات الأساسية المحركة للاقتصاد، في ظل موروث اقتصادي ثقيل لنظام الاستبداد جعل قوت الشعب مرتهن لدى لوبيات تعد على أصابع اليد طوعت كل شيء لخدمة مصالحها من دون أدنى شعور بالمسؤولية الوطنية.
فوجدت المنظومة الجديدة نفسها أمام حالة من شبه الإفلاس للدولة أو الإفلاس غير المعلن بسبب تضخم كتلة الأجور والتراجع المريع للإنتاج وكثرة الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار السياسي المصاحبة للانتقال الديمقراطي، تضاف إليها الوضعية الكارثية للمؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية وضعف القطاع البنكي وغياب الرؤية لدوره في تحريك الاقتصاد وخضوعه لنفس اللوبيات.
لقد بلغت الأوضاع الاجتماعية أوجها في أواخر 2010 بداية 2011 وأدت إلى ثورة الحرية والكرامة التي أطاحت بالنظام.
وأوجدت الثورة آمالاً كبيرة لدى كل الفئات الاجتماعية وبخاصة الشباب في وضع أفضل، إلا أن صعوبات الانتقال الديمقراطي ومعوقاته السياسية الداخلية والخارجية الدولية والاقليمية وارتفاع انتظارات المواطنين من الثورة لم تساعد على تحقيق تقدُّم في معالجة الأوضاع الاجتماعية بل زادتها تفاقماً بلغت فيه نسبة البطالة ما يقارب 16% ومرشحة للوصول إلى 21%.
وتصاعدت نسب الفقر وعدد العائلات التي تعيش تحت خط الفقر فضلاً عن غياب السكن اللائق والصحة والتعليم وغيرها.
بغض النظر عن نظرية المؤامرة فإن كل هذه الأوضاع، ما حصل وما يمكن أن يحصل من غضب وحالة عدم رضى لدى المواطنين التي جرى التعبير عنها بالنسب العالية لعدم الرضى والاحتقان الذي تظهره استطلاعات الرأي أو عبر الاحتجاجات الليلية غير المؤطرة التي صاحبتها أحياناً أعمال عنف واعتداء على الممتلكات التي لاقت إدانة واستهجاناً من الجميع وتعاملاً جاداً من المؤسسة الأمنية والقضائية وكذلك عبر الاحتجاجات النهارية المؤطرة التي رغم تواضع تأثيرها وفاعليتها فقد تمكنت من إيصال رسالة الشعب إلى من يهمه الأمر من مكونات منظومة الحكم من الأحزاب والنخب والمنظمات عنوانها "كفى صراعات وتجاذبات. عليكم تحمل مسؤولياتكم التاريخية والعمل متضامنين متعاونين متنافسين في خدمة المصلحة الوطنية".
فإن التقاط هذه الرسالة والقدرة على إنفاذها يتطلب إرادة سياسية قوية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية وبناء منوال تنموي جديد. فهل تقدر منظومة 24/19 على إنجاز هذه المهمة والخروج بالبلاد من المأزق الحالي؟
لقد أفرزت انتخابات 2019 مشهداً برلمانياً مفككاً، وشخصية قانونية طارئة عن الحياة السياسية في الرئاسة، وذلك ضمن سياق سياسي ومزاج شعبي لا يختلف كثيراً عن الحالي إلا من بقية ثقة بإمكانية إصلاح الأوضاع بالصندوق.
وتعود أسباب ذلك إلى ضعف النخبة السياسية وعدم نضجها واهترائها طيلة العشرية المنصرمة بسبب ما مارسه نظام الفساد والاستبداد من تجريف للحياة السياسية وما تأصل لدى بعض مكونات هذه النخبة من نزعة استئصالية وحقد أيديولوجي وولاءات مشبوهة ورفض للتعايش والقبول بالآخر وضعف الوعي بالديمقراطية والتزام مقتضياتها.
كما تعود الأسباب أيضاً إلى ضعف منظومة حكم ما بعد الثورة وضعف الدولة الذي يعود بالأساس إلى سلبية آلية إفراز البرلمان كأهم مؤسسة في المنظومة المتمثلة بالقانون الانتخابي عموماً ونظام الاقتراع خصوصاً الذي يعتمد التصويت على القائمات الانتخابية بالنسبية مع اعتماد أكبر البقايا من دون عتبة، وهو نظام من أسوأ سلبياته تشتيت المشهد السياسي وإنتاج مؤسسات حكم ضعيفة.
يضاف إلى ذلك ما حصل من تهجين للنظام السياسي بين البرلماني والرئاسي وقد ظهرت عيوبه منذ تطبيقه إثر انتخابات 2014، وتفاقمت أواخر العهدة السابقة بسبب الخلاف بين رأسَي السلطة التنفيذية في ظل غياب المحكمة الدستورية التي لم يتوصل البرلمان إلى تشكيلها.
وازداد الوضع السياسي تأزماً بسبب قطيعة رئيس الدولة مع رئيس الحكومة الناتجة عن رغبته في التوسع بالصلاحيات، وكذلك قطيعته مع رئيس البرلمان وموقفه من النظام البرلماني بل من الديمقراطية التمثيلية برمتها. وقد وصل الخلاف إلى حد رفض رئيس الدولة التعديل الوزاري الأخير من خلال عدم دعوة الوزراء الذين زكاهم البرلمان أخيراً لأداء اليمين الدستورية إلى الآن، من دون اعتبار لآراء كل فقهاء القانون الدستوري باستثناء واحد فقط، ومن دون رجوع إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي تقوم مقام المحكمة الدستورية، مما جعل أكثر المختصين بالقانون الدستوري يفتون بتجاوز عملية أداء الوزراء لليمين.
هذا بخصوص المنظومة، أما بخصوص ضعف الدولة فإنه راجع إلى مقتضيات الانتقال الديمقراطي وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية.
في رأينا فإن تونس اليوم بحاجة ماسة إلى حوار وطني بوساطة وطنية يمكن أن تكون من المنظمات الوطنية الثلاث: الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد التجارة والصناعة واتحاد الفلاحين، وذلك بالانطلاق من مضمون مبادرة اتحاد الشغل التي اقترحها على الرئيس بعد تعديلها فيما يخص عدم الاستثناء من المشاركة وحذف الصيغ التي تؤدي إلى الحلول محل الهيئات المنتخبة (هيئة الحكماء) وإيجاد صيغة لمشاركة الشباب ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب الأحزاب.
حوار برعاية ودعم من الرئاسات الثلاث في زمن محدود، أولويته التوافق حول الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وإصلاح منظومة الحكم والقوانين المنتجة لها بما في ذلك الدستور، من أجل جعل إرادة منظومة الحكم قوية وقادرة على الإصلاح، واتخاذ القرارات الضرورية الحاسمة والمؤلمة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.