النقطة الرئيسية التي جلبت الاهتمام الأوسع هي الإعلان عن خفض سعر صرف العملة العراقية "الدينار" أمام الدولار الأمريكي من 1190 ألف دينار مقابل الدولار إلى 1540، ما يهبط بقيمة العملة العراقية في السوق نحو 20% من قيمتها السابقة.
وقدّر مراقبون اقتصاديون أن هذه النسبة قد ترتفع إلى حدود الـ30% إذا ما أضفنا إليها التخفيضات التي أقرّتها هذه الموازنة في مخصصات المرتبات التي تصرف لموظفي الدولة، كما أن أحداً غير قادر، حتى الساعة، على التنبؤ بإمكانية ثبات سعر الصرف المقرّ من وزير مالية حكومة الكاظمي عند حدود 1450 أم أن مضاربات السوق سترفعه إلى حدود 1500.
تقول حكومة الكاظمي إن هذا القرار ضروري لمواجهة الأزمة المالية المستفحلة والعجز عن تسديد رواتب موظفي الدولة، وأعاد مستشارو الحكومة وبعض المقرّبين منها، وأيضاً بتصريحات من وزير المالية العراقي علي علاوي عبر وسائل الإعلام، تأكيد ضرورة القيام بإجراءات مؤلمة من أجل الإصلاح الاقتصادي، وذكّر هذا الكلام المتابعين بما أعلنه الكاظمي عبر تغريدة على موقع تويتر في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من إعلانه عن "الورقة البيضاء" التي تضمّ خطّة إصلاح اقتصادي شامل، قصيرة ومتوسطة المدى، حيث قال: "إن ورقة الإصلاح التي قدّمناها اليوم للقوى السياسية، هي مشروع حلّ لأزمة إدارة الاقتصاد المزمنة، والاعتماد الكامل على النفط وعدم تنويع مصادر الدخل".
وبمراجعة "الورقة البيضاء" التي جاءت بـ96 صفحة وبعنوانها الفرعي: التقرير النهائي لخلية الطوارئ للإصلاح المالي. سنجد أنها تستعرض مفردات صارت شائعة في الحديث عن الإصلاح الاقتصادي في العراق، مثل التذمّر من الاقتصاد الريعي الذي جعل العراق يعتمد بشكل كامل على واردات النفط، والدعوة إلى ترشيد النفقات العامة، وإصلاح أنظمة الإدارة المالية والقطاع المصرفي، وتنشيط القطاع الخاص.
وبما يتعلق بتخفيض سعر صرف العملة العراقية أشارت الورقة "لقد أدى سعر الصرف غير التنافسي واضمحلال قطاع السلع القابلة للتداول، وأولوية التوظيف في القطاع العام، ونقص الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والبنى التحتية، إلى فقدان إنتاجية العمالة العراقية".
كانت هذه الورقة الإصلاحية قد قرئت على نطاق واسع خلال الشهرين الماضيين، وحظيت بتعليقات من خبراء واقتصاديين، إن كان في وسائل الإعلام أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى في الجروبات الخاصة بالنخب السياسية على الواتساب، ورغم الإقرار بأهمية التوجّه نحو الإصلاح الاقتصادي، وتوقّع إجراءات مؤلمة وصعبة، لكن الكثير من الانتقادات وجّهت الى هذه الورقة، أبرزها ما يتعلق بعموميتها وإنشائيتها، وأنها لا تحدّد مهام الحكومة الحالية وإنما ترسم لسياسات تعبر إلى صلاحيات حكومة قادمة أو حكومتين، ربما لن تجد نفسها ملزمة بتطبيق مفردات هذه الورقة الإصلاحية، وتجترح لنفسها مساراً آخر.
في كلّ الأحوال فإن "الإصلاح الاقتصادي" ليس خياراً بين خيارات أخرى، ولا تملك حكومة الكاظمي رفاهية أن تتجاهله، خصوصاً مع وضع يتجه إلى الانهيار الكامل، أبرز عناوينه العجز عن توفير مرتبات موظفي الدولة.
وكان الكاظمي نفسه قد أعلن في مؤتمر صحفي أنه لا يملك مرتبات الشهر الأول من 2021. وجاء هذا بعد تقديمه لقانون الاقتراض الداخلي، الذي تم إقراره في البرلمان في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في محاولة لتوفير مصادر تمويل تسدّد مرتبات شهرين فقط!
لم تمرّ 24 ساعة على إقرار سعر الصرف الجديد حتى صارت المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي لعراقيين تشير إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار مواد السوق العراقية، الأمر الذي صاعد حالة الهلع، ما دفع إلى استذكار صور كابوسية من فترة العقوبات الاقتصادية على العراق في تسعينيات القرن الماضي، حيث تجاوز فيها سعر صرف الدولار حاجز 2000 دينار عراقي، مع استشراء الفقر وقلّة فرص العمل.
وتصاعدت بسبب الإعلان عن سعر الصرف الجديد دعوات جديدة للتظاهر احتجاجاً على هذا القرار الحكومي الذي يستهدف شريحة الفقراء فيزيدهم فقراً، حسب الكثير من المعلّقين، وأيضاً طلبات بإقالة وزير المالية علي علاوي ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
في الحقيقة ينقسم الجمهور الغاضب من هذه الإجراءات إلى عدّة مجموعات، الأولى هم جمهور الاحتجاج التشريني الذي صار يربط الإجراءات ذات الأثر السيئ على الشارع العراقي مع خذلان موجة الاحتجاجات التشرينية التي استمرت نحو عام من قبل شريحة الموظفين "المجموعة الثانية" الأكثر غضباً الآن، وسلبيتها في ذلك الوقت تجاه مطالب الحراك الشعبي العراقي الداعي لإصلاحات جذرية.
أما المجموعة الثالثة فهم جمهور وإعلام الأحزاب "الولائية" الذين تعوّدوا على تسديد سهام النقد تجاه حكومة الكاظمي في أي مناسبة كانت ويعتبرونها عدواً لهم. هؤلاء سارعوا لركوب موجة الغضب الشعبي لأجل إحراج الحكومة العراقية ليس إلا. وفي هذا السياق أصدرت "كتلة الفتح" النيابية التي تضم تيارات سياسية مقرّبة من إيران بياناً اعتبرت فيه "استهداف الموظفين وذوي الدخل المحدود خطاً أحمر".
هناك مجموعة رابعة تبدو أكثر هدوءاً، هم جمهور التيار الصدري، ويعزو الكثير من المراقبين ذلك إلى اتفاق بين الصدر والكاظمي على هذه الإجراءات مسبقاً، خصوصاً بعد حصول الصدر على ما كان يطمح إليه، وهو منصب محافظ البنك المركزي، المسؤول عن السياسات المالية في العراق.
في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أعلن الكاظمي عن تغييرات طالت عدّة مناصب كبيرة في أجهزة الدولة العراقية، وكان منها تعيين مصطفى غالب مخيف، المقرّب من التيار الصدري، محافظاً للبنك المركزي.
وبعد مرور أقل من يوم على تعيينه قام المحافظ الجديد بإجراءات تخصّ منح تراخيص لشركات ومصارف أهلية لدخول مزاد العملة في البنك المركزي العراقي، بعضها جهات مشبوهة استولت على نحو ثلث مبيعات البنك من الدولار. بحسب إفادات قدّمها السياسي المستقل "إبراهيم الصميدعي" في لقاءات تلفزيونية وعلى صفحته على فيسبوك.
محافظ البنك المركزي كان قد أعلن قبل يومين من الخبر الصدمة المتعلق بخفض قيمة العملة العراقية أنه لا خوف من هذه الإجراءات، وأن العملة ستستقر بعد مدّة على سعر صرف مناسب، وأن هناك إجراءات سيقوم بها البنك المركزي ستحقق "توازناً مريحاً" في سعر صرف العملة، حسب بيان نشره موقع البنك المركزي على الإنترنت.
وأضاف المحافظ أن من ضمن الإجراءات: إطلاق مبادرة بمبلغ 3 تريليونات دينار (نحو 2.5 مليار دولار) لدعم ذوي الدخل المحدود، ومضاعفة توفير العملة الصعبة (الدولار) في السوق، وزيادة نسب الفائدة على العملة العراقية المودعة في المصارف.
السيد مقتدى الصدر الذي تعوّد على ملاحقة الأحداث العامة بتغريداته، لم يتّخذ موقفاً متشدداً من هذا الإجراء، ونشر تغريدة ليّنة أشار فيها الى أن هناك فساداً يجب ملاحقته، وأن تخفيض سعر صرف العملة يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدّين.
كما أنه نشر في اليوم اللاحق تغريدة تشير إلى ضرورة ضبط المنافذ الحدودية وأنها بؤرة للتهريب والفساد. وهو الأمر الذي فُهم أنه دعم من ثاني أكبر فصيل سياسي لإجراءات حكومة الكاظمي في الإصلاح الاقتصادي.
لا ينفي الكثير من المعنيين بالشأن الاقتصادي العراقي أهمية تخفيض سعر صرف العملة العراقية من أجل تنشيط القطاع الخاص العراقي وحماية الفعاليات الاقتصادية المحلية من منافسة المستورد، إلا أن هذا الإجراء يجب أن يكون متدرجاً وليس دفعة واحدة بما يشبه الصدمة للسوق العراقية، وأيضاً يجب أن يكون ضمن حزمة إجراءات موازية وليس منفرداً.
وفي ذلك كتب الصحفي مصطفى ناصر أن "التقديرات تشير إلى أن المهدور من الدولار في مزاد العملة يصل إلى 50 مليون دولار شهرياً. وسيطرة الهيئات الاقتصادية المليشياوية على المنافذ تستنزف من العراق ذات المبلغ بل أكثر. السيطرة على هذه الأموال يوفر للحكومة أموالاً أكثر ممَّا تريد جنيه من رفع سعر صرف الدولار".
الأمر في الحقيقة يتطلب، مع خفض سعر صرف العملة بشكل متدرّج قد يستغرق سنة كاملة، إجراءات للحدّ من الهدر العام والفساد، والتدقيق في فواتير مرتّبات موظفي الدولة والأجهزة الأمنية، والتي أشار رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي في لقاء متلفز إلى وجود هدر فيها، حيث إن أكثر من نصف المرتبات تصرف لأسماء موظفين وهمية "فضائيين" تذهب إلى جيوب الكتل السياسية المتنفذة والمليشيات.
كما أن الحجّة بدعم القطاع الخاص تتداعى أمام حقيقة أن المليشيات تسيطر بالكامل على كل نشاط اقتصادي خاص، وتحارب المشاريع التي تمثّل منافسة للبضائع المستوردة التي تشرف عليها جهات مرتبطة بالمليشيات والأحزاب الكبرى، أو تستولي عليها بالقوة، أو بأخذ أتاوات عالية منها، وهناك العشرات وربما المئات من القصص المحزنة عن هذه الحقيقة التي ترسّخت في الواقع الاقتصادي العراقي بشكل فاضح منذ 2014 إلى اليوم.
كما أن السيطرة على واردات المنافذ الحدودية الرسمية وإغلاق تلك غير الرسمية، والتي أعلن عنها رئيس الوزراء الكاظمي قبل عدّة أشهر وقام بجولات إعلامية على هذه المنافذ من أجلها، كل ذلك لم يثمر أي شيء، وما زالت السيطرة فيها لقوى مليشياوية كبرى تتحكّم بالواردات التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً.
لم تستطع حكومة الكاظمي حتى الساعة المساس بمصالح الكتل السياسية الكبيرة وأذرعها المليشياوية. لذلك فهي ستحمّل كلفة الأزمة الاقتصادية والمالية على كاهل المواطن العراقي، الذي تعتمد الدورة الاقتصادية عنده على مرتب الموظف فهو المشغّل لقطاع الخدمات وسوق السلع في العراق.
وإذ أعلنت كتلة الفتح عن الدعوة لمساءلة الكاظمي ووزير ماليته في البرلمان العراقي، فإن الكاظمي على ما يبدو يستقوي بالتأييد الضمني من الجناح الثاني الموازي لثقل كتلة الفتح ألا وهو التيار الصدري. وكلا الطرفين ينظر بعين أولى على المصالح المالية الخاصة التي يعزّزها الفساد، وبعين ثانية على استثمار هذه الأزمة الجديدة للترويج السياسي قبيل الانتخابات المبكّرة منتصف العام القادم.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.