وتشمل هذه المناصب: مصرف ليبيا المركزي، وديوان المحاسبة، وجهاز الرقابة الإدارية، وجهاز مكافحة الفساد، والمفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة العليا، والنائب العام.
إذن يبدو، للأسف، أن المحاصصة هي الحل والفيصل في تدبير كثير من النزاعات العربية، ويبدو أنها تمتلك القدرة على الحسم والتقرير، أكثر مما يُعْتَقَدُ في الآليات العقلانية والعمليات السياسية الأكثر ديمقراطية. فالخلافات بين الأحزاب السياسية في المغرب حُسمت قبلا بآلية "الكوطا" الشبابية والنسائية، كما أن الصراعات العراقية واللبنانية دُبرت وما تزال بآلية المحاصصة الطائفية والعرقية، ويبدو أن الأشقاء في ليبيا سائرون بدورهم في اتجاه إعمال المحاصصة الجهوية لتدبير خلافاتهم حول اقتسام السلطة والإفادة من خيراتها. فما الذي يجعل من "فكر" المحاصصة واقعا لا يرتفع، في صناعة السياسة والاجتماع العربيين؟ وعلام يستند هذا الأسلوب التدبيري للوقائع والأشياء؟ وما شروط إنتاجه وإعادة إنتاجه الأولية؟
لنعد إلى المغرب الذي يجري فيه نقاش كبير اليوم حول "لا دستورية" المحاصصة الشبابية، الذي استعملت قبلا في تشريعيات 2012 و2016، والتي جعلت شبابا تم تمديد سنهم إلى 40 سنة، يدخلون البرلمان في إطار لائحة وطنية، اعتبرت من قبل الكثيرين مجرد "ريع سياسي" أفاد منه المقربون من الزعماء والمتحدرون من العائلات الغنية. وهو ما دفع "شعب الفايسبوك" إلى الاعتراض على هذه الغنائم السياسية التي تنفر المواطن من السياسة وتعزز مواقف العزوف والمقاطعة الانتخابية.
فالمحاصصة الشبابية وحتى النسائية، وإن بُررت بالتمييز الإيجابي لفائدة النساء، فإنها تعبر عن "آليات لاديمقراطية" تستعير أطرها المرجعية من حقل تقليداني، وهو بالضبط حقل القبيلة والغنيمة الذي أسس لكثير من الأعطاب السياسية والاجتماعية في الوطن العربي. ولهذا يعتبر عدد من فقهاء القانون بأن مبدأ المحاصصة غير دستوري بالمرة، وأن ما حدث بالنسبة للائحة الوطنية للنساء، لا يجب أن يمتد إلى باقي فئات المجتمع، وإلا ستطالب عشية كل انتخابات، فئة ما بكوتا معينة، مما يحيل المشهد السياسي والمؤسسات التمثيلية إلى إقطاعيات فئوية، بدل أن تكون ممثلة للجميع بعيدا عن طبيعة الانتماء.
وعندما ننتقل إلى الحالة الليبية سنجد أن المحاصصة المكانية أو الجهوية التي اقترحت لتدبير الصراع حول السلطة، تسير في نفس الأفق المفتوح على منطق القبيلة والغنيمة. فتوزيع المناصب العليا لن يكون محتكما إلى آلية الكفاءة والاستحقاق، وإنما سيكون وبقوة "الاتفاق التاريخي" مرتهنا إلى الحظوظ والفرص المتاحة "قانونا" أمام كل قبيلة ومنطقة، تأسيسا لتمثلية جهوية ومكانية، فكل طائفة وكل قبيلة وكل "زاوية" يفترض أن يكون لها نصيب من "غنيمة المناصب". وذلكم بالضبط ما استعمل في تدبير كثير من الأزمات و"التوافقات" و"الترضيات" و"التواطؤات" بكل من لبنان والعراق وكثير من دول الخليج.
ففي كل مجتمع، تتعالى هذه الصراعات حول السلطة وطرق الإفادة منها، وتكشف بذلك عن تردداتها وارتداداتها في منطق المحاصصة توزيع منافع الحقول، وهو ما ينتج في النهاية، مفهوم "الدراما الاجتماعية" الذي تحدث عنه فيكتور تيرنر، والذي يعبر عن "الحلقات العامة لانفجار التوترات الاجتماعية" والسياسية.
فالمجتمع بالنسبة إليه، هو عبارة عن حالة من الصراع الدائم بين البنى التي تعمل على حفظ التوازن من جهة، والبنى المضادة التي تعمل على خلخلة هذا التوازن من جهة ثانية، فدوما هناك صراع بين البنية والبنية المضادة، وهو ما يخلق حالة من التوتر الدائم، بين عناصر البنية، وهو ما يؤجل الانتقال إلى مصاف الديمقراطية الحقة.
تفيد المحاصصة لغويا عملية تقسيم رياضياتية، يكون المبدأ فيها هو تقسيم الكل/الحاصل/الحصة الأم، على مكونات/حصص صغرى، بحسب العناصر المكونة للمعادلة، بشرط ألا تكون قسمة ضيزى، حيث يأخذ كل عنصر حصة مطابقة لباقي الحصص الموزعة على الجميع. إلا أنها من حيث استعمالها السياسي فهي تدل على وضعية ملتبسة تحاول أن تنتصر للحداثة والعقلانية في تدبير التوزيع العادل للسلطة، لكنها تضمر أسانيد تقليدية تحيل على القبيلة والغنيمة، ما يضعنا أمام الإشكال الانتمائي للبنيات، والذي تحدث عنه غرامشي يوما، في توصيفه للصراع الدائر بين القديم والجديد، بما يدل على أن القديم لم ينسحب وأن الجديد لم يولد بعد.
لقد كان يقول بالحرف بأن "القديم ينهار، والجديد لم يولد بعد، وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية". وعليه فإن المحاصصة ستسيل لعاب الجميع، وستدفع كل طرف إلى تأكيد أحقيته وتوسيع حيازاته، خصوصا وأنها لا تستند إلى القانون، بل تدبر بجبر الخواطر والتفاوض والمساومة.
وفي الوقت الذي يؤكد "العقل الديمقراطي" ألا مكان للمحاصصة في تدبير الصراع، أو بكل وضوح، في توزيع الغنائم، نجد "العقل التبريري" الذي يتواطؤ مع السياسي والتكنوقراط، مؤكدا ضرورة الانصياع لفكرة المحاصصة، لحقن الدماء وتمكين الشباب والنساء وتمثيل الطوائف والأعراق والجهات، وما إلى ذلك من مبررات، تتجاوز مبدأ الاستحقاق لصالح القبيلة والغنيمة والعقيدة.
ختاما نقول بأن المحاصصة الغنائمية تنتمي في الأصل إلى "نمط تفكير انغلاقي" يحاور الواقع من داخل نسق مغلق، لا يقر بالانفتاح وموجبات الإفادة مما يوجد خارج النسق الأصلي، إنها لعبة الحقيقة والسراب، الاستحقاق والتوريث، "ديمقراطية الجوهر" و"ديمقراطية الشكل"، وبالطبع فإن كل الذين يتعاملون مع المحاصصة وتدبير السلطة بهذه الازدواجية يصدق عليهم ما أشار إليه أدونيس وهو يتحدث عن النظر إلى التراث، فقد أشار إلى الـ"هؤلاء" قائلا بأنهم يتعاملون من التراث "كقوقعة خانقة لا كفضاء مفتوح، كنسق مغلق لا ككلام يُوَلِّدُ ما يختلف عنه، باختصار إنهم يتعاملون معه كنفق لا كأفق"، وذلكم ما يتسرب إلى الممارسة السياسية ذاتها، إذ تلوح، وفقا لآل المحاصصة، كنفق يتوجب الدخول إليه، والإفادة من خيراته وغنائمة، لا كأفق للسؤال والتفكير والتأويل وإعادة بناء الذوات والأوطان.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.