نحن أمام ظاهرة لم تشهدها الولايات المتحدة منذ المظاهرات المناهضة للحرب في فيتنام وحركة الحقوق المدنية عام 1968.
لقد أطلقت الحرب على قطاع غزة وما صاحبها من مجازر ضد السكان المدنيين، خصوصاً الأطفال، قوّة عارمة وحركة احتجاج تقودها منظمات المجتمع المدني من الليبراليين ويسار الحزب الديمقراطي وتجمعات الأمريكيين الأفارقة.
وتسهم في هذا الحراك المساند للحق الفلسطينيّ: حركة "حياة السود مهمة"، واتحاد العمّال، و"طلّاب من أجل العدالة في فلسطين"، والمنظمات اليهودية الأساسية "أصوات يهودية من أجل السلام"، والتجمع الجديد والقوي "ليس باسمنا"، ومجموعة "إذا لم يكن الآن".
فضلاً عن هذا الزخم، هناك المنظمات العربية والإسلامية، وأهمها مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، واللجنة العربية لمناهضة التمييز (ADC )، واتحاد الجاليات الفلسطينية ومنظمات العودة، وتجمع "الأمريكيون المسلمون من أجل فلسطين" (AMP)، واتحاد الطلاب الفلسطيني، ولجان المرأة، ومراكز الجاليات الفلسطينية في كل المدن الرئيسية الأمريكية وعشرات النوادي والتجمعات العربية، بالإضافة إلى المساجد والجمعيات الخيرية الإسلامية.
وللعلم، فالعلاقة بين النشطاء السود والفلسطينيين تعود إلى عقود مضت، لكنها عادت إلى النشاط أكثر في أعقاب احتجاجات فيرغسون عام 2014 وصعود حركة "حياة السّود مهمة".
وربط الكثير من النشطاء الفلسطينيين قتل الشرطة للسود العزّل بالوضع في غزة والضفة الغربية، كما كانت رؤية لافتات تحمل شعار "فلسطين حرة" خلال الاحتجاجات بعد مقتل جورج فلويد عام 2020، من الأمور اللّافتة للنظر.
نصرة أمريكية لغزة
وعملت هذه المنظمات بشكل منفرد مرات، وبشكل جماعي مرات أخرى، وقد استطاعت تنظيم مظاهرة مركزية في واشنطن العاصمة يوم السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني، شارك فيها نحو 300 ألف شخص على الأقل، وهناك من قدّر العدد بـ800 ألف.
ورفعت المسيرة شعارات أساسية، أهمها وقف إطلاق النار فوراً، وإنهاء الحصار على غزة، ومنها: "دع غزة تعيش"، و"الحرية لفلسطين"، و"وقف تسليح إسرائيل"، و"أموال الضرائب يجب أن تُصرف هنا".
ولم تكن مظاهرة واشنطن الكبرى هي المظاهرة الوحيدة التي شهدتها المدن الأمريكية، بل انطلقت وما زالت تنطلق مظاهرات عارمة في أماكن كثيرة، مثل نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو ودالاس وناشفيل وسينسيناتي ولاس فيغاس وباترسون في ولاية نيوجيرسي وفيلادلفيا، وحتى في مدينة صغيرة مثل أورونو بولاية مين.
لقد انطلقت هذه المظاهرات في الولايات المتحدة متأخرةً بنحو أسبوع، مقارنةً بالاحتجاجات الواسعة في عواصم آسيوية وأوروبية مثل جاكرتا وإسلام آباد ولندن وباريس وبرلين.
وحرك قصف مستشفى المعمداني بغزة في 17 أكتوبر/تشرين الأول -الذي قُتل فيه نحو 500 من المرضى والطواقم الطبية والنازحين- ضمير العالم، وتبين أن الحرب على غزة ليست حرباً على حماس، بل هي حرب شاملة ضد الشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه ورجاله وشيوخه ومرضاه، بمن فيهم العاملون في المنظمات الإنسانية مثل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي فقدت أكثر من 103 من موظفيها.
في مدينة سينسناتي بولاية أوهايو، حيز كبير داعم للفلسطينيين وقضيتهم، إذ أغلق مئات المتظاهرين يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني الطرق والتقاطعات الرئيسية، وهتفوا بشعارات مؤيدة للفلسطينيين تحت أعين الشرطة المتشددة.
وقد نظم التجمع والمسيرة مجموعات متباينة إلى جانب المسلمين في المدينة، الذين يمثلون شرائح متنوعة من البلدان العربية والإسلامية، وقد يختلفون على أشياء كثيرة، لكنْ هناك شيء واحد يوحِّدهم هو دعم قضية فلسطين.
أحرار اليهود يناصرون العدالة
كما تناصر فئة من اليهود الأمريكيين الفلسطينيين، إذ تجمّع العشرات من الحاخامات اليهود في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني، في مبنى الكابيتول في العاصمة، للصلاة من أجل وقف إطلاق النار، كما أغلقت مجموعات أخرى تقدَّر بالمئات جميع الأبواب إلى القنصلية الإسرائيلية في شيكاغو، للمطالبة بوقف إراقة الدماء.
وتمكنت الجماعات اليهودية المناهضة للحرب من أن تقتحم قاعات الكونغرس الأمريكي، وتسيطر على محطة القطارات المركزية في نيويورك، وتعطل حركة المواصلات تماماً، رافعةً شعار "وقف إطلاق النار الآن".
وفي سان فرانسيسكو، نفَّذ نحو 700 من يهود كاليفورنيا إلى جانب الحلفاء من ذوي التفكير المماثل اعتصاماً يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني، في مبنى أوكلاند الفيدرالي في ولاية كاليفورنيا، احتجاجاً على تواطؤ الحكومة الأمريكية في قصف غزة، وطالبوا بوقف إطلاق النار في حرب إسرائيل على غزة، مما أدى إلى اعتقالات جماعية.
وأوقفت الشرطة أكثر من نصف المتظاهرين الحاضرين بعد رفضهم مغادرة مكان الاعتصام، وقد دعا المنظمون المنتمون إلى منظمتين يهوديتين قادتا الاعتصام هما "إذا لم يكن الآن" و "أصوات يهودية من أجل السلام"، الرئيس بايدن إلى دعم وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وفي شيكاغو، تجمّع المئات من نشطاء السلام اليهود وحلفائهم في محطّة قطار رئيسية وسط مدينة شيكاغو خلال ساعة الذروة صباح 6 نوفمبر/تشرين الثاني، وأغلقوا مدخل القنصلية الإسرائيلية، مطالبين بدعم أمريكي لوقف إطلاق النيران الإسرائيلية على القطاع.
وقال المنظّمون إن يهود غرب الولايات المتحدة ووسطها وحلفاءهم سافروا إلى شيكاغو من ولايات أيوا وميسوري ومينيسوتا وميشيغان وإنديانا وويسكونسن وإلينوي، للمشاركة في المظاهرة.
مثقفون مع فلسطين
من جهة أخرى، استقالت جاسمين هيوز، الكاتبة الحائزة جوائز عدّة، من مجلة نيويورك تايمز يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن انتهكت سياسات غرفة التحرير من خلال التوقيع على رسالة أعربت عن دعمها للفلسطينيين واحتجّت على الحصار الإسرائيلي في غزة.
لقد نُشرت العريضة التي وقعتها هيوز حول الحرب بين إسرائيل وغزة على الإنترنت قبل أسبوع من استقالتها، وكانت وراءها مجموعة من الكتاب تسمى "كتاب ضد الحرب على غزة".
وندّدت المجموعة التي تصف نفسها بأنها "تحالف ملتزم بالتضامن وأفق تحرير الشعب الفلسطيني" بما وصفته بـ"الهجوم الإقصائي" الإسرائيلي على الفلسطينيين وكذلك مقتل الصحفيين الذين كانوا يغطون الحرب.
وقد وقّع عليها مئات الأشخاص، بمن في ذلك صحفيون ومؤلّفون معروفون، وجاء في الرسالة: "إننا نقف بحزم إلى جانب شعب غزة".
كما استقالت الشاعرة والكاتبة والحائزة جائزة بوليتزر الرفيعة، آن بوير، المحررة في مجلة نيويورك تايمز، يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني، بسبب دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حربها على غزة.
وقبلها بيوم، صعدت مجموعة من نجوم كرة السلّة على مسرح فعالية توزيع "جوائز الكتاب الوطني" المرموقة، ليعلنوا مناهضتهم للقصف المتواصل على غزة.
كفة الرأي مع غزة
وقالت استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجرتها رويترز/إبسوس يوم الأربعاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني، إن 68% من الشعب الأمريكي يؤيدون وقف إطلاق النار الفوري.
وضمَّت العينة ثلاثة أرباع الديمقراطيين ونصف الجمهوريين، ويؤيد 43% من المستجوبين وقف إرسال أسلحة لإسرائيل.
وهذا هو الاستطلاع الثاني الذي يكشف عن نتائج متشابهة، إذ أيَّد 66% يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، دعوة الولايات المتحدة إلى وقف إطلاق النار.
ويبدو أن المجتمع الأمريكي يتغير، صحيح بشكل بطيء، لكننا نلاحظ أنه في كل يوم، يُدرك عدد متزايد من الناس أن وقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد للمضيّ قدماً نحو السلام والعدالة لجميع الفلسطينيين والإسرائيليين.
وهذا التغير بدأ يترك بصمة على المشرّعين، إذ أرسل 400 موظف وسياسي يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني، وهم يمثلون 40 وكالة حكومية، رسالة إلى الرئيس بايدن للاحتجاج على الحرب على غزة، كما أرسل 24 عضواً من مجلس النواب رسالة مماثلة إلى الرئيس تدعوه للضغط من أجل وقف الحرب.
إنها معركة ضد الظلم والقهر والاحتلال، وأجيال عالم اليوم تتجه نحو الوقوف مع الحق والعدل والحرية. إنها البداية، غزة تُغيّر المنطقة وتُغيّر العالم.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.