على الرغم من أن منصب رئيس الجمهورية في العراق يُعَدّ شبه رمزيّ، وأن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس السلطة التنفيذية الفعلي، فإن انتخاب رئيس الجمهورية هو مفتاح إنهاء الأزمة الحالية، لسببين دستوريين، الأول أن رئيس الجمهورية هو من يقوم بتكليف رئيس الوزراء تشكيل الحكومة، والسبب الثاني أن انتخاب رئيس الجمهورية يتطلب أصوات ثلثَي أعضاء البرلمان في الجولة الأولى للتصويت، ما يعادل 220 نائباً، وأن الاتفاق السياسي على التصويت لرئيس الجمهورية دائماً ما يأتي ضمن صفقة سياسية واحدة تشمل الاتفاق على المرشح لمنصب رئيس الوزراء.
في خضم ذلك يحاول الجنرال إسماعيل قا آني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني منذ أسابيع بذل مساعيه لفرض الرؤية الإيرانية لحلّ أزمة تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، وكأنه المبعوث السامي الإيراني إلى العراق، كما كان سلفه الجنرال قاسم سليماني، من خلال زيارتين قام بهما قا آني للعراق مؤخراً خلال أقل من شهر واحد.
المالكي.. عقدة الحلّ
إن مطالب إيران من مقتدى الصدر وحلفائه من الكرد والسنة، وهم الفائزون بوضوح في الانتخابات الأخيرة، تتلخص بعدم استبعاد أي طرف من قوى الإطار التنسيقي الشيعي الذي يضمّ القوى السياسية-المسلَّحة المدعومة من إيران من تشكيلة الحكومة المقبلة، وإعطاء منصب رئيس الجمهورية لمرشح الاتحاد الوطني الكردستاني، حلفاء إيران من الكرد. يمكن لإيران أن تقبل بالتنازل عن المطلب الثاني، إذا ما تَحقَّق لها الأول.
الصدر من جهته أعلن قبوله بضمّ قوى الإطار إلى الحكومة المقبلة، باستثناء نوري المالكي وقائمته "دولة القانون"، لأن الصدر يخشى من ردة فعل قاعدته الشعبية بحالة الائتلاف مع المالكي، الذي نكّل بأتباع التيار الصدري خلال فترة رئاسته للحكومة العراقية. هذا الحل الذي يتبناه الصدر تراه قوى الإطار غير مُجدٍ، لأن المالكي يملك 33 مقعداً، فيما لا تملك قائمة الفتح -وهي أكبر قوى الإطار بعد قائمة المالكي- سوى 17 مقعداً، بمعنى أن قبول قوى الإطار بالتخلي عن المالكي يعني قدومها للائتلاف مع الصدر بوزن نيابي ضعيف، ما سينعكس حتماً على وزنها ونفوذها في الحكومة المقبلة.
إيران من جهتها تجد صعوبة أيضاً في التخلي عن المالكي، والقبول باستبعاده عن معادلة السلطة في العراق، وهو من الركائز المهمة للمشروع الإيراني في هذا البلد، فالمليشيات المدعومة من إيران نمَت وترعرعت في هذا البلد خلال سنوات حكومتَي المالكي الثماني 2006-2014، وهو لا يخفي ولائه لإيران وانسجامه مع مشروعها في العراق والمنطقة، حتى الاختراق الإيراني للساحة السورية الذي تم جُلُّه انطلاقاً من العراق، أدى فيه المالكي دوراً كبيراً من خلال إيهام الولايات المتحدة بحيادية حكومته تجاه الأزمة السورية، فيما قدمت حكومة المالكي كل التسهيلات والدعم الممكن لذلك الاختراق، في وقت كان فيه للأمريكان دور ونفوذ في العراق أقوى بكثير من الحالي.
لتجاوز عقدة المالكي، قد تنجح إيران بإقناع الصدر بأحد الخيارين، إما القبول بإعطاء المالكي منصباً في الحكومة المقبلة، ولو كان رمزياً قليل الصلاحيات، وإما إعطاء أحد أعضاء ائتلاف المالكي "دولة القانون" منصباً في الحكومة.
قا آني وشبح سليماني
استخدم قا آني خطاباً ناعماً تجاه مجريات الأزمة السياسية الحالية في أولى زياراته للعراق في العام 2022، التي جرت في منتصف يناير/كانون الثاني، قام خلالها بزيارة قبر السيد محمد محمد صادق الصدر في النجف، والد السيد مقتدى الصدر، كرسالة ودية إلى مقتدى الصدر، ولكن لم تتسرب خلال تلك الزيارة أي معلومات عن تَحقُّق لقاء بين قا آني ومقتدى الصدر، بل تسربت معلومات بأن الصدر رفض لقاء قا آني خلال تلك الزيارة.
الصدر لا يطرح نفسه خصماً لإيران، وهو لديه علاقات جيدة مع دوائر صُنَّاع القرار في طهران، وإيران قدّمَت له ولأتباعه ملاذاً آمناً عندما استهدفهم المالكي، ولكنه يحاول إيصال رسالة إلى الإيرانيين بأنه حان الوقت لتغيير سياستهم في العراق، ولتغيير الأطراف والشخصيات العراقية التي كانوا يعتمدون عليها من أجل ضمان مصالح إيران في هذا البلد. إذ إن الصدر مدرك تماماً أن السياسة الإيرانية السابقة في العراق، والممارسات السابقة لأذرعها في هذا البلد، كانت السبب الرئيس وراء انهيار الأوضاع، واندلاع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي كادت أن تطيح بالعملية السياسية برمتها. لذلك يرى الصدر أن على أيران أن تتعامل معه لضمان مصالحها بوصفه بات الطرف الشيعي الأقوى في العراق.
لكن إيران تخشى من انفراد الصدر بالتمثيل الشيعي في سلطة العراق، كونه يختلف عن باقي الأطراف الشيعية، فهو أكثر انفتاحاً منهم على المحيط العربي والإقليمي، فضلاً عن مواقفه المناهضة لنهج وسلوكيات المليشيات العراقية المدعومة من إيران، ورفضه انخراط تلك المليشيات في الصراع السوري.
عاد قا آني إلى العراق في 25 يناير/كانون الثاني بزيارة ثانية، ولكن بخطاب مختلف وأكثر تصلباً، ففي مقابلته مع مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل في 30 يناير/كانون الثاني، ذكر العديد من المصادر أن قا آني قال للبارزاني إن استبعاد قوى الإطار عن تشكيلة الحكومة المقبلة في العراق يُعَدّ خطراً على الأمن القومي الإيراني، من المؤكد أن هذه الرسالة أوصلها قا آني أيضاً إلى القوى السياسية السنية المتحالفة مع الصدر.
أراد قا آني الضغط على أضعف حلفاء الصدر (الكرد والسنة)، لتصل انعكاسات ضغوطه إلى الصدر. بعد لقاء قا آني والبارزاني بيوم واحد، وصل إلى مقر إقامة الصدر في النجف وفد يضمّ زعامات السنة والكرد المتحالفين مع الصدر، ليطرحوا على الصدر مبادرة مقدمة من مسعود البارزاني لضمّ جميع قوى الإطار إلى تشكيلة الحكومة القادمة. كذلك تَمكَّن قا آني في زيارته الثانية من عقد لقاء مع مقتدى الصدر في النجف في 8 يناير/كانون الثاني.
يواجه قا آني خلال انخراطه في الأزمة السياسية الحالية في العراق تحديين: الأول إنقاذ نفوذ وتأثير إيران في العملية السياسية في هذا البلد، والتحدي الثاني إثبات مقدرته على إدارة ملف العراق والتحكم به مثلما كان يفعل سلفه سليماني. تُوجَّه من داخل إيران انتقادات لأداء قا آني، بأنه لم يرتقِ حتى الآن إلى مستوى الأداء السابق لسليماني، في التدخل والتأثير في العملية السياسية في العراق، وفي السيطرة على أذرع إيران في هذا البلد، وضبط نشاطاتهم ومواقفهم ضمن إطار المصالح الإيرانية، وأن الأطراف العراقية المرتبطة بإيران تمر بحالة من الارتباك والفوضى، ويبدو أن صوت قا آني ضاع وسط تلك الفوضى ولم يعُد مسموعاً ومطاعاً مثل سليماني.
لقد كان سليماني بارعاً في إدارة وتنفيذ المشروع الإيراني في العراق؛ سياسياً كان لسليماني مقدرة على اختراق مدخلات ومخرجات كل انتخابات، وأمنياً كان سليماني قادراً بالتعاون مع وكلائه في العراق على إبقاء الأوضاع الأمنية في هذا البلد بحالة من "اللا استقرار واللا انهيار"، لا استقرار من أجل تعجيل مغادرة الأمريكان للعراق، وخلو الساحة العراقية من أي نفوذ دولي أو إقليمي، باستثناء النفوذ الإيراني، ولا انهيار من أجل ضمان عمل الحكومة العراقية ومؤسساتها، ودوران عجلة الاقتصاد العراقي الذي أصبح الرئة الاقتصادية التي تتنفس منها إيران خلال السنوات الماضية من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
حتى اليوم نجح قا آني في ضمان مشاركة قوى الإطار في الحكومة المقبلة، ولكن ما هو غير مضمون حتى الآن هو حجم تلك المشاركة ووزنها المؤثّر، وهل سيكون المالكي جزءاً من تلك المشاركة أم لا. كذلك نجحت تأثيرات قا آني في عرقلة انعقاد جلسة البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، ولكن ما هو غير مضمون حتى الآن هو إن كان قا آني سيتمكن من تمرير مرشح حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لهذا المنصب. لذلك يمكن القول إن حلّ الأزمة السياسية الحالية في العراق، يمثّل أهمّ اختبار لاستمرار النفوذ الإيراني في هذا البلد، ولاستمرار قا آني في منصبه مبعوثاً سامياً إيرانياً لإدارة الملفّ العراقي.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.