من الخطأ بمكان الخلط بين ملفّين منفصلين: الأول اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء، والثاني إعادة العلاقات بين المغرب وإسرائيل.
في ما يخصّ الموضوع الأول، فإن الإعلان الرئاسي لترمب صحيح وله حُجّيّة وقوة سياسية وقانونية. فالأوامر التنفيذية والإعلانات هي إجراءات تصدر عن الرئيس الذي يتخذها وفق سلطته التي يستمدها من الدستور أو النظام الأساسي، وبذلك يكون لها قوة وتأثير القانون، ولا يكون التصديق عليه أو رفضه إلا وفق شروط قضائية أو تشريعية صعبة الإنجاز أو بقرار من الرئيس المنتخَب، وهو ما لم يحدث قط في السابق، لذا فمن غير المتوقع التراجع عن هذا القرار الأمريكي.
وهذا الاعتراف جاء ثمرة لمسلسل من الحوار والتفاوض استمر لسنوات، وجاء كذلك تتويجاً لمسار انطلق منذ قرابة 20 سنة مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون، مروراً بحقبة الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما، وما واكبها من مواقف المئات من أعضاء الكونغرس الأمريكي التي تعتبر مقترح الحكم الذاتي الذي تَقدَّم به المغرب سنة 2007 ذا مصداقية وواقعياً.
وكان الكونغرس الأمريكي قد أصدر مشروع قانون سنة 2013، صدّق عليه الرئيس أوباما سنة 2014، وهو القانون الذي سمح لأول مرة بتوسيع استخدام المساعدات الأمريكية للمغرب لمبادرة التنمية بالصحراء، وهو اعتراف ضمني آنذاك بإمكانية السيادة المغربية على الإقليم، وهذا الأمر لا يزال ساري المفعول منذ ذلك التاريخ.
فقرار الرئيس ترمب أشار في حيثيات بنائه إلى حدث تاريخي هامّ جداً هو كون المغرب أول بلد اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، وبالتالي فهو ردّ للجميل وليس مقايضة كما يراه ممتهنو المقايضات.
من جهة أخرى فالقرار لا يتنافى إطلاقاً مع الشرعية الدولية التي يُراد بها باطل، لأن أساس الشرعية في ما يتعلق بالسيادة يرتكز على الاعتراف الذي تُقدِم عليه الدول بشكل سيادي وانفرادي.
والرئيس ترمب هو الرئيس الفعلي والأوحد للولايات المتحدة الأمريكية إلى غاية الساعة الثانية عشرة من زوال يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، والقرار هو قرار الولايات المتحدة الأمريكية دولة المؤسسات التي تمرّ صناعة القرار بها من عدة مراكز، وبالتالي فالقرارات لا تُتخذ بشكل انفرادي أو انفعالي أو مزاجي أو اعتباطي كما يعتقد البعض.
كما أن الأمم المتحدة لم تعبّر عن رفضها لهذا القرار، لأنه قرار داخلي وسيادي لدولة، ولم تصفه بأنه يتناقض مع الشرعية الدولية، بل أكدت ضرورة المسار الأممي للوصول إلى الحلّ السياسي تحت رعايتها الحصرية بعيداً عن مشاركة أي منظمة إقليمية أو قارية أخرى كالاتحاد الإفريقي الذي يسعى البعض للزج به في هذا الموضوع.
فالأمم المتحدة في أدبياتها وقراراتها وتقاريرها، أقبرت الحديث عن الاستفتاء نهائياً، ومجلس الأمن يسعى للوصول إلى الحل السياسي الدائم والمقبول من الأطراف، وبذلك اعتبار الانفصال ليس بالحل الواقعي.
في المقابل اعتبر المقترح الذي تقدم به المغرب سنة 2007، بإعطاء حكم ذاتي تحت السيادة المغربية للصحراء، بأنه واقعي وذو مصداقية. فالقرار الأمريكي لا يتعارض مع هذا التوجه الذي أصبح يظهر علانية وبشكل جلي وواسع من بين تجلياته استقالة رئيس "المجموعة الداعمة للصحراء" بالبرلمان الأوروبي خواكيم شوستر، وتصريح الناطق الرسمي للحزب الوطني الباسكي في البرلمان الإسباني، وهو أحد كبار الداعمين للبوليساريو الذي أعلن صراحة أنه "على البوليساريو أن تفهم ما هو ممكن وما هو مستحيل"، وأن تشتغل في إطار الممكن. مع إشارته إلى أهمية المغرب كشريك استراتيجي. هذا بالاضافة إلى مواقف أخرى دقّت آخر المسامير في نعش الانفصال.
فالعالم عرف تغيرات جيو-استراتيجية كبيرة وتحولات جيو-سياسية عميقة ولم نعُد في حقبة الحرب الباردة، وواقعية وبراغماتية الدول لم تعُد تنطلي عليها الشعارات.
وفي ما يتعلق بالموضوع الثاني، فهناك محاولة لإقامة ربط تعسفي بين الملفين: الاعتراف الأمريكي وإعادة العلاقات مع إسرائيل، مع محاولة الركوب على مفهوم "التطبيع" الذي أصبح بحمولة سياسوية وآيديولوجية.
للإشارة، نحن أمام إعادة العلاقات بين البلدين، فمنذ اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دخل الصراع بين الطرفين مرحلة علاقات طبيعية بهدف الوصول إلى إقامة حل الدولتين، وجميع الدول العربية اعترفت صراحة أو ضمنياً، سراً أو علانية، بدولة إسرائيل، ما دام الطرف المعني وهو الطرف الفلسطيني قبل بهذا الحلّ وانخرط في هذا المسار.
وعلى عكس دول أخرى فتحت من قبل التسعينيات من القرن الماضي أو بعدها سفارات، فقد اكتفى المغرب بفتح مكتب للاتصال. وأمام تعثُّر المسلسل التفاوضي وبعض السياسات الإسرائيلية وكذا الانتفاضة، قام المغرب بإغلاق مكتب الاتصال وتجميد هذه العلاقات سنة 2002.
علماً بأن للمغرب جالية يهودية كبيرة جداً بإسرائيل تقارب مليون مواطن، تربطهم علاقات قوية بوطنهم الأم منذ أزيد من 2000 سنة، وبه عائلاتهم، وأماكنهم المقدسة، ومقابر أجدادهم وتاريخُهم، فبأي حق يمكن أن يُمنع هؤلاء من زيارة بلدهم في ظروف عادية وبأسفار مباشرة دون عناء؟
تُعتبر المملكة المغربية أقدم دولة في المنطقة، فقد أُسست وقامت دون انقطاع منذ سنة 788 ميلادية، إذ توالت الأسر الحاكمة ولم تتغير طبيعة النظام ولا ملامح الدولة، هذا البلد الذي عبر محطات وأحداث التاريخ ولا يزال شامخا قوياً بتلاحم شعبه وعرشه.
إن خزعبلات تأثير اليهود المغاربة على القرار والمصالح المغربية دغدغة بئيسة للمشاعر، وجهل بالذكاء الجماعي المغربي وبحكمة القيادة المغربية. كما أن مزاعم انضمام المغرب إلى منطق الصفقة الأمريكية جهل بقوة وصلابة الإرادة المغربية.
فالمملكة المغربية تتخذ بكل سيادةٍ القراراتِ التي تخدم مصالحها الوطنية، وتتوافق مع مواقفها الثابتة من القضايا العربية والإسلامية والدولية، وعلى عكس البعض لا تستجيب تحت الضغط أو بتقديم تنازلات، فلا مساومة ولا مقايضة ولا تضحية بالقضية الفلسطينية التي أكّد العاهل المغربي أنها في مصافّ قضية المغرب الأولى، ألا وهي قضية الصحراء المغربية.
إذن فنحن أمام إعادة لربط العلاقات بشكل متدرج، مع تأكيد ضرورة الدفع بقطار المفاوضات والحوار بين الطرفين الرئيسيين والمعنيين: الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، هذا ما أكده العاهل المغربي وما أبلغه للرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم العاشر من ديسمبر/كانون الأول، فلا حلّ خارج حلّ الدولتين، مع احترام والحفاظ على الوضع والطابع الخاص للقدس.
القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني دفعا ثمناً باهظاً نتيجة مواقف أصحاب "اللاءات" نهاراً و"الصفقات" ليلاً، مَن بالحضن أمام الكاميرا وبالطعن خلف الستار، بالمقابل المغرب كان ولا يزال داعماً وفيّاً للقضية.
القرارات التاريخية اتُّخذت فوق أرضه، ولا يزايد أحد على ما يقدّمه في كل المحطات الرئيسية ومن خلال كل المواقع، وأولها لجنة القدس التي يترأسها أمير المؤمنين محمد السادس، العاهل الذي يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، رجل المواقف لا الشعارات.
فالقضية الفلسطينية بحاجة إلى مَن يحملها ويدعمها بعقلانية، لا من يركب عليها ويُغرِقها بالشعارات.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.
محمد بنحمو هو رئيس المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية - المغرب