شكل اقتراح الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري تفعيل المادة 102من الدستور لإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية نقطة فارقة في علاقة الجيش بالرئاسة. لأن رئيس هيئة الأركان حليف استراتيجي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وقطعة أساسية ضمن عصبته المقربة. بل وكان من أكثر المؤيدين لمشروع الترشح لولاية خامسة لولا أن الحراك الشعبي وتفاعلاته التي أفسد الخطة و أخرج الحليف العسكري من العصبة الرئاسية.
بين 26 شباط/فبراير 2019 و 26 آذار/مارس أربعة أسابيع من التحولات المتدرجة طرأت على مواقف القيادة العسكرية كانت ترد خلالها تباعا الخطابات على لسان الفريق أحمد قايد صالح. ففي خطابه الأول 22 شباط/فبراير أي أربعة أيام عقب تفجر الغضب الشعبي تبنى الجيش لهجة حادة؛ واصفا المتظاهرين حسب الفريق أحمد قايد صالح بـ"المغرر بهم"؛ معتبراً الاحتجاجات تهديداً للأمن والاستقرار، قبل أن تضطر وزارة الدفاع وبسرعة قياسية إلى سحب الفقرة من هذا الخطاب، وتطلب من التلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء عدم بثها والاكتفاء بالأجزاء الأخرى من الخطاب.
الفقرة المحذوفة من خطاب رئيس هيئة الأركان كانت تعبيراً حقيقياً عن الموقف الشخصي للفريق أحمد قايد صالح بوصفه حليف للرئيس بوتفليقة. فهو من رقّاه وأوصله إلى هذه المنزلة العسكرية العالية، وجاء به من أجل التخلص من جنرالات كانوا ينازعون مؤسسة الرئاسة الحكم، وشكلوا حجرة عثرة في وجه تمدد واستقواء حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؛ من بينهم مدير جهاز الاستخبارات السابق الفريق محمد مدين المعروف باسم الجنرال توفيق.
لكن مع استمرار الحراك الشعبي وتصاعده كان خطاب الجيش يحاول التماهي مع مطالب الشعب، ويشدد كل مرة على متانة الروابط بين الطرفين حيث قال القايد صالح في إحدى خطبه التي تتكرر بمعدل مرتين أسبوعياً: إن الجيش والشعب لهما رؤية واحدة؛ قبل أن يزداد التغزل إلى درجة تقديم وعود للشعب بأن هناك حلا بل وحلولا للحراك الشعبي.
ليس من مصلحة الجزائر أن يتورط الجيش في السياسية لكن بسبب كونه المؤسسة الأكثر تنظيماً وانسجاماً وقوة فلا يمكن التوصل إلى حل مهما كان سواء ضمن الدستور أو خارجه دون دور للجيش سواء كطرف فاعل أو ضامن.
ومقابل عبارات التودد التي تضمنتها خطابات قائد الأركان على مدار أربعة أسابيع فإنها خلت من أي تمجيد أو حتى إشارة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي هو في الوقت ذاته وزير الدفاع، والقائد الأعلى للقوات المسلحة على عكس ما كان عليه الحال في السابق حيث كان من المستحيل أن يلقى الفريق أحمد قايد صالح خطابا أو كلمة دون أن يشيد فيها بالرئيس بوتفليقة.
موقف الفريق أحمد قايد صالح من ترشح الرئيس بوتفليقة يعرفه الكل؛ فرئيس الأركان كان أول المتحمسين للولاية الخامسة بل ورفض فكرة تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت متداولة في دوائر ضيقة داخل النظام عندما تم طرحها في اجتماعات خاصة في شهر كانون الأول/ديسبمر الماضي. وشكل موقفه المساند دافعاً قوياً للمضي في موضوع العهدة الخامسة التي جرى التخطيط لها في دوائر ضيقة بعيداً عن إرادة الشعب قبل أن يُصدم الجميع بانتفاضة شعبية غير مسبوقة أفسدت على الجميع مشروعهم، وتسببت في إحداث شرخ بين هيئة الأركان و مؤسسة الرئاسة.
ويعزو الكثير من العارفين هذا التحول في موقف الفريق أحمد قايد صالح ليس إلى قناعته الخاصة بضرورة التخلي عن حليفه بوتفليقة، وإنما إلى محيط رئيس الأركان المُشكّل في أغلبه من قيادات جديدة لم تكن على صلة مباشرة بصناعة القرار في سنوات الحرب الأهلية التي تورط فيها الجيش بسبب سيطرة قيادات علمانية متطرفة وذات نزعة استئصالية.
هذه القيادات المحيطة حالياً بالفريق أحمد قايد صالح أو كما يعرف بقادة النواحي العسكرية وغيرهم وعددهم لا يتجاوز العشرين جنرالا هم من دفعوا باتجاه أن يكون الجيش قريباً من تطلعات الشعب تصديقاً لاسمه "الجيش الشعبي الوطني"، ويرفضون أن يعاد استنساخ تجربة سنوات التسعينات من القرن الماضي عندما ورطت طغمة من الجنرالات المؤسسة العسكرية في مواجهة مفتوحة مع جزء من الشعب. وهذا ما لا تريد القيادات الحالية أن يتكرر وتسعى إلى الحفاظ على صورة الجيش كهيئة دستورية جمهورية لا تنحاز سوى للوطن والشعب.
التصدعات التي أصابت معسكر الداعمين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أحزاب وقوى ومنظمات ورجال أعمال وصل اليوم إلى أقوى مؤسسات الدولة وهو الجيش ما يعني فعلاً أن عمر الجناح الرئاسي صار أقصر مما كان متوقعاً.
تحت هذا الضغط الشعبي الذي أفسد على نظام بوتفليقة خططه ومشاريعه للاستمرار في إدارة البلاد رغم الفساد والاستبداد اعتدل موقف الجيش واقترب أكثر حتى وصل إلى اقتراح حل يضمن مخرجاً مشرفاً للرئيس بوتفليقة ، وهي نقطة تؤرق النظام الحالي، فجاء طلب رئيس الأركان تفعيل المادة 102 من الدستور التي تنص على إعلان شغور منصب رئيس الجمهورية إما بالاستقالة أو بالمرض.
ورغم أن الحل يستند إلى الدستور بما يحفظ للرئيس بوتفليقة كرامته، وللبلد أمنه، واستمرار مؤسسات الدولة ضمن الحالة الدستورية عقب نهاية الولاية الرئاسية الحالية، إلا أن الجناح الرئاسي يبدو رافضاً لمقترح رئيس الأركان هذا إن لم يكن قد تفاجأ به، لأن ما ورد في خطاب الفريق أحمد قايد صالح يوم 26 آذار/مارس لم يطلع عليه القصر الرئاسي؛ بل كان وقعه كالصاعقة على رؤوس من مازالوا يمسكون بزمام الأمور مكان رئيس مريض وعاجز عن إدراك ما يدور حوله.
وقد شكل هذا الإعلان قطيعة حقيقية بين الجيش والرئاسة وزاد في عزل جماعة الرئيس بوتفليقة المتمسكة بخارطة الطريق المقترحة وما تتضمنه من تمديد للفترة الرئاسية الحالية خارج الأطر الدستورية. وهي خطة يرفضها الحراك الشعبي الذي يرى في مقترح الجيش خطوة هامة لكنها غير كافية.
إن إعلان الجيش تأييده لتنفيذ المادة 102 يعد تخلياً واضحاً عن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وميلاً أكبر لمطالب الحراك الشعبي الذي لم ترضه الخطوة بعد ، مثلما يُعد مؤشراً قوياً على أن العلاقة بين المؤسستين الرئاسية والعسكرية قد دخلت مرحلة صراع لم يكن متصوراً من قبل.
فالتصدعات التي أصابت معسكر الداعمين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أحزاب وقوى ومنظمات ورجال أعمال وصل اليوم إلى أقوى مؤسسات الدولة؛ وهو الجيش ما يعني فعلاً أن عمر الجناح الرئاسي صار أقصر مما كان متوقعاً، وأن الخيارات أمامه باتت محدودة، وأن المؤسسة العسكرية قد تضطر للتدخل وفرض منطقها إذا لم يتنح الرئيس بوتفليقة قبل انقضاء ولايته الحالية في 28 نيسان/إبريل المقبل.
وقد يجد الجيش من يسانده في مسعاه التدخلي، وبكل تأكيد ليس من مصلحة الجزائر أن يتورط الجيش في السياسية بعدما ابتعد عنها طيلة سنوات، لكن بسبب كونه المؤسسة الأكثر تنظيماً، وانسجاماً وقوة فلا يمكن التوصل إلى حل مهما كان سواء ضمن الدستور أو خارجه دون دور للجيش سواء كطرف فاعل أو ضامن.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.