والتي اعتبرتها إسبانيا خطوة تهددُ أمنها البحري واحتلالاً غير قانوني لمياهها الإقليمية، وذلك رغم أن المغرب ينفي السيادة الإسبانية على هذه الجزر التي تسيطرُ عليها اسبانيا منذ القرن التاسع عشر والمتاخمة لساحلِ مدينة الناظور المغربية، ويعتبرها المغرب جزراً محتلة ويطالب باستعادتها.
لا يمكنُ إنكار أن المغرب قدم رخصة إقامة مزرعة سمكية لشركة مغربية وهو ما تثبتهُ الجريدة الرسمية المغربية، والتي صدرت في 7 مارس/آذار 2021، كما أن المشرف على صناعة أقفاص هذه المزرعة وتركيبها على بعد 700 متر من الجزر الجعفرية كانت شركة إسبانية. وإلى الآن تم تركيب ما يقرب من 16 قفصاً وذلك منذ أن شرعت العملية في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
ولكن لفهم حيثيات ما يحدثُ الآن بين المغرب وإسبانيا علينا أن نستحضر ملف ترسيم الحدود البحرية الطافية على السطح منذُ أن قام المغرب عبر مجلس المستشارين، إحدى غرف البرلمان المغربي، في الرابع من فبراير 2019 بالمصادقة على مشروعي قانونين يسعيان إلى ترسيم الحدود البحرية للمغرب من مدينة طنجة شمالاً إلى لكويرة جنوباً. وهو ما يمكن اعتباره انعطافة مهمةً قام بها المغرب في تدبير مناطقه البحرية، إذ عمل التشريع الجديد على تحديد حدوده البحرية لتشمل المياه والجرف القاري الممتد إلى صحرائه المغربية، لتكتمل بذلك مسطرة التصديق التشريعي للمغرب في هذا المجال.
هذا التشريع الجديد يأتي بعد تأخُّر المغرب في ترسيم حدوده البحرية لسنوات، حيث يسعى المغرب في ظل التغيرات الجيوسياسية ألَّا يظل على هامش ديناميكية تنظيم المساحات البحرية، بحكم وضعه الجغرافي البحري المتميز. وتترافق هذه الديناميكية مع العديد من العمليات التي يقودها المغرب، مثل اعتماد مخطط هاليوتيس وبناء ميناء طنجة المتوسط وإنشاء موانئ أخرى، بما في ذلك ميناء الداخلة. وتتطلب هذه الديناميكية أدواتٍ قانونية تتيح لها الدفاع عن مصالحها. وإدراكاً من المغرب لهذه التحديات، فقد صادق على اتفاقية مونتيغو باي لقانون البحار في عام 2007. ولكن قبل أن يصبح المغرب طرفاً في الاتفاقية المذكورة، لجأ إلى المبادئ العرفية. هذه هي الطريقة التي أنشأ بها منطقته الاقتصادية الخالصة، وأبرم اتفاقيات الصيد البحري مع دولٍ عديدة.
ولأن المغرب بات يعتمدُ على المسار التشريعي من أجل حماية حدوده البحرية من التمدد الإسباني، فإنه اعتمد على نصوصٍ تشريعيةٍ وتنظيميةٍ تتعلَّق باختصاصه البحري، مثل الظهير الشريف الصادر في 8 أبريل/نيسان 1981 بإصدار القانون رقم 81 لإنشاء منطقة اقتصادية خالصة تبلغ 200 ميل بحري قبالة الساحل المغربي.
وهو ما يشكّل تهديداً لإسبانيا التي طالما سعت إلى تمديد نفوذها البحري، واستغلال عدم حسم المغرب ملف الصحراء لصالحه، من أجل تمديد النفوذ الإسباني البحري في المحيط الأطلسي. فالحدود البحرية التي تجمع الطرفين لم يتم ترسيمها بسلاسة نظراً لتداخل المناطق البحرية للبلدين.
وعلاوة على ذلك، لطالما قامت إسبانيا بتصرفاتٍ أحادية في المناطق البحرية، مثل الحاصل بموجب مرسوم ملكي إسباني بتاريخ 23 يناير/كانون الثاني 2002، الرامي إلى إجراء التنقيب عن النفط البحري في المجال البحري بين طرفاية وجزر الكناري. وقد انتهك هذا القرار الجرف القاري المغربي. ومع ذلك، فإن المادة 83 من اتفاقية مونتيغو باي توصي بتعيين حدود الجرف القاري للدول التي تواجه سواحلها بعضها البعض انطلاقاً من اتفاق ثنائي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن مبدأ الفعالية يمنح المغرب الحق في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة، ومن ثَمَّ فإن اتفاقية الصيد المبرمة مع الاتحاد الأوروبي تجد مجالاً للتطبيق هناك.
إلَّا أن المغرب بدأ يخطو خطواتٍ تزعج الجانب الإسباني، ومن بين الخطوات التي قام بها المغرب وضغطت على الجانب الإسباني هو تنزيل المغرب مخطط هاليوتيس، وإنشاء العديد من الموانئ الكفيلة بمنح المغرب أدوات تطوير رئيسية، مما يجعله قوة بحرية إقليمية حقيقية، وما يحدثُ الان في الجزر الجعفرية يجب أن يتم وضعه في هذا السياق من أجل فهم تطورات الملف حقيقة.
ناهيك عن خطوة المغرب الجدية في مسار ترسيم حدوده البحرية التي تضغط على الجانب الإسباني الذي سعى إلى الحدِّ من حدود المغرب البحرية بخطواتٍ عديدة، من بينها تقدُّم إسبانيا والبرتغال في 11 مايو/أيار 2009 بطلبٍ لتمديد الجرف القاري إلى ما بعد 200 ميل إلى لجنة حدود الجرف القاري.
وأحد أسباب تجدُّد الأزمة بين المغرب وإسبانيا هو أن هذه الأخيرة حاولت أن توظف ورقة استضافة إبراهيم غالي كورقة ضغط على المغرب من أجل ألَّا يوظف هذا الأخير علاقته بالولايات المتحدة من أجل الدفع بعملية مسار ترسيم حدوده البحرية قدماً، إلَّا أن المغرب سعى إلى عدم تمرير الأمر وتصعيده من أجل عدم إقدام الجانب الإسباني على خطوات أخرى في هذا الصدد.
وما يمكنُ استخلاصهُ مما سبق بأن سبب احتجاج المغرب الحقيقي مردّه سعي المغرب إلى ترسيم حدوده البحرية والتي تعدُ خطوة يمكنُ أن تطيل أمد الأزمة المغربية الإسبانية، وإن خبت في بعض الأحيان بسبب المصالح الثنائية للبلدين اقتصادياً، فكما هو معلومٌ للجميع بأن إسبانيا الشريك الاقتصادي الأول للمغرب في عام 2019، حيث استحوذت على 28.4٪ من إجمالي التجارة الخارجية للبلاد مع الاتحاد الأوروبي. وهو ما يعادل 14.89 مليار دولار، حسب تقرير التجارة الخارجية السنوي لمكتب الصرف لعام 2019.
كما استحوذت الدول الأوروبية مجتمعة على 65.8٪ من إجمالي التجارة الخارجية للمغرب في عام 2019، المقدرة بنحو 52.46 مليار دولار. كما بلغ نصيب البلدين الجاريْن مجتمعيْن 52.2٪ من تجارة المغرب مع أوروبا، هذه الأرقام تدل على أن تمدد الأزمة بين الجانبين يمكن أن يلقي بظلاله على اقتصاد البلدين الذي يعاني بفعل عوامل عديدة آخرها مخلفات أزمة كوفيد-19 ولكنه في نفس الوقت يوحي أن تطور هذه الأزمة لمستويات أخرى يظل صعباً بسبب وعي البلدين لتداعيات الأمر إذا تحول إلى قطيعة اقتصادية بين البلدين، فالطرفان غير مؤهليْن للتصعيد الاقتصادي، وكلاهما يكتفيان بمناورات سياسية، الغرضُ منها أساساً تثبيت السيادة والهيمنة على المياه الإقليمية، وما يحصل في الجزر الجعفرية مثال حي على ذلك، فهي مناورات ذات طابع سياسي بالأساس يصعب تطورها رغم انحياز أجهزة الاتحاد الأوروبي للموقف الإسباني.
ولكن المرجح أن اسبانيا ستعيدُ ترجمت موقفها من ترسيم الحدود المغربية بتحريك ملف الصحراء بطريقة ما تعيدُ الجدل حوله، إلا أن الديبلوماسية المغربية تراقبُ الوضع بحزمٍ شديد يمكنُ لمسهُ بشكل واضح في طريقة تفاعله الحازمة مع استقبال اسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي على أراضيها، والذي قوبل برفضٍ وتنديدٍ مغربي فرض على الجانب الاسباني ترحيل هذا الأخير بسبب تصعيد المغرب وتعامله الحازم مع هذا الملف، وفي النهاية يمكنُ أن نقول أن الأزمة بين البلدين حاضرة وصفحاتها لم تطوى، ولكن يتمُ التعاملُ معها بمنطق "الحرب الباردة"، وذلك لصعوبة حسم الملف لأحد الطرفين في الظرفية الراهنة على الأقل.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.