لطالما شكلت منطقة البلقان مسرحاً للتنافس بين القوى العالمية باعتبارها تلعب أدواراً جيواستراتيجية واقتصادية وسياسية مشتركة، فمن ناحية قدّم الاتحاد الأوروبي نموذجاً لا مثيل له في التقارب الإقليمي مع دول المنطقة، ومن ناحية أخرى ظهرت روسيا بصفتها لاعباً قوياً لصدِّ محاولات الجهود الرامية إلى ضم البلقان للناتو، كما عزّزت الصين استثماراتها في دول غرب البلقان حتى أصبحت واحدة من أعظم الشركاء التجاريين في المنطقة.
في هذا السياق، تدرك الأنظمة السياسية في دول البلقان دورها في ميزان القوى العالمي، وهو ما يدفعها إلى الاستفادة من خصائصها الطبيعية والبشرية والاقتصادية والسياسية، لزيادة فاعليتها وتحديد سياساتها بما يتوافق مع تحقيق تنمية سريعة ومستدامة.
نقطة التقاء حتمية.. السياسة والاقتصاد
اتفاقاً مع الرأي القائل إنّ مبدأ الاعتمادية الأُفقية أو المتبادلة هو من أبرز خصائص النظام السياسي الدولي المعاصر، وعندما ندرس مسألة رسم السياسات الخارجية الخاصة بالدول، فإنّنا سنجد أنّ الدول تدرك أهميتها ومكانتها وتأثيرها بناءً على ما تمتلكه في جوفها من ثروات سيقت إليها بموجب موقعها الجغرافي، ومن هنا فإنّ من شأن هذه الثروات الجوفية أن تتيح فرصاً لا مثيل لها لصانع القرار السياسي.
بمعنى آخر، إنّ وجود نظام اقتصادي قوي وموارد طبيعية غنية ذات قاعدة استهلاكية مرتفعة وقدرة إنتاجية وتصديرية ضخمة، تعني امتلاك مؤسسات الدولة حرية فريدة من نوعها أمام الخيارات المطروحة، وبالتالي يمكنها تحقيق الاستقرار والتنمية، لكن ذلك يتوقف على قدرة النظام على الاستثمار الصحيح في هذه الإمكانيات المتوافرة لديها.
تركز نظرية الاقتصاد السياسي، المعروفة باسم القانون الذي يحكم اقتصاد الدولة أو المجتمع على تحديد المعايير التي يجب على الدولة اتباعها من أجل تعظيم استخدام ثرواتها لأغراض استقرارها وبقائها، ويمكننا أن نطلق على التفاعل المتبادل بين السياسة والاقتصاد المرتبط بالموارد الطبيعية مصطلح الاقتصاد السياسي، لكن التعريف السابق يعتبر واسعاً وعاماً للغاية، لذلك فإنّنا نعرّف هذه النظرية بأنّها العلم الذي يبحث عن طرق لاستخدام الموارد النادرة بكفاءة لتحقيق النفوذ السياسي.
الثروات المخفية في جوف البلقان
ويتميز مجمع منجم تريبكا بثالث أكبر قدرة صهر في العالم، ويضم 17 منشأة منفصلة، إذ تجري معالجة المعادن، كما يغذي هذا المنجم الصناعات المعدنية والكيميائية وقطاع الطاقة بدءاً من الكهرباء إلى بطاريات السيارات، كما يجري تصدير المعادن المستخرجة من تريبكا إلى فرنسا وسويسرا واليونان والسويد وجمهورية التشيك وروسيا وبلجيكا.
إنّ منطقة البلقان التي تضم كلاً من جمهورية كوسوفو وصربيا والبوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا وكرواتيا، غنية بالموارد الطبيعية والأصول الجوفية والثروات المعدنية، ومن بينها موارد الطاقة والمعادن الملونة والمواد الجيولوجية التي تمثل الإمكانات الأكثر أهمية للتنمية الشاملة.
إضافةً إلى ذلك، تزخر هذه المنطقة بمخزون هائل من الفوسفات والنحاس والفحم والرصاص والألمنيوم والمنغنيز والحديد، عدا كونها تحتل الترتيب الأول في القارة الأوروبية بامتلاكها لأعلى احتياطي من الكروم المستخدم بشكل أساسي في صناعة السبائك والفولاذ المقاوم للصدأ والصناعات الكيميائية، علاوةً على توافر كميات من الغاز الطبيعي والبترول.
وبسبب امتلاكها لهذه الثروة المعدنية الباطنية الهائلة والمتنوعة، حظيت منطقة البلقان بثقلٍ سياسي وأهمية كبيرة في توازن العلاقات الدولية، كما أصبحت مركزاً ساخناً للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية؛ لبسط النفوذ عليها والاستفادة من خزائنها على مدى التاريخ.
سياسة الانفتاح وديناميكيات التحوّل
تتمتع منطقة البلقان بأهمية كبيرة لكل من الاتحاد الأوروبي وتركيا، ومصدر هذه الأهمية ليست الجيوسياسية أو الترابط التاريخي فقط، وإنّما يتأثر بشكل أكبر بعلاقات تجارية وثيقة ونقاط عبور ومصدر لا ينضب للثروات الكامنة في باطنها.
وتُعتبر التجارة الخارجية لدول البلقان والمتمثلة في تصدير الثروات الجوفية بشكل أساسي، إحدى الأدوات المهمة في رسم سياسات الدولة، لما لها من مكانة كبيرة في الاقتصاد العالمي، فنجد أنّ الطلب على الموارد الطبيعية في كوسوفو مرتفع للغاية، مقارنةً بالسلع والخدمات الأخرى.
وهذا ما يدفع حكومة جمهورية كوسوفو لاستخدام القاعدة الاستهلاكية الخارجية الضخمة في قطاع المعادن والتعدين كورقة رابحة في اتخاذ قراراتها السياسية وتشكيلها، ولا سيّما في ظل تطلّع دول المنطقة للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، وإنْ كانت دول غرب البلقان تعاني عدم استقرار سياسي مستمر وأزمات محلية، إلا أنّها عقدت شراكة متقدمة مع الاتحاد الأوروبي بهدف تطبيق سياسة الاتحاد في الاستقرار، وتنفيذ خطط عمل استراتيجية ذات أهداف اقتصادية وسياسية مشتركة.
بعد أن تبنّت دول البلقان سياسة الانفتاح الخارجي عام 1990، تشكلت علامة فارقة في العلاقات السياسية بدءاً من الاتفاقيات والتفاهمات الثنائية والارتكاز على الجانب البيروقراطي للعلاقات الاقتصادية والتجارية، وهو ما انعكس على حجم الصادرات وانتقالها من سياسة الحصة المرجوة من المناقصات إلى الاستثمارات، وانتقالاً إلى تنفيذ مشاريع بحثية مع دول إقليمية للنهوض بالهيكل الاقتصادي لدول جنوب شرق أوروبا (البلقان).
كما نجد أيضاً أنّ السياسات الجديدة النابعة من القدرة الجوفية نقلت البلقان إلى أن تصبح نقطة انطلاق لشركات خارجية ترغب في التحوّل إلى العالمية، كما هو الحال مع تركيا التي تشهد علاقات تجارية ثنائية تقوم على تصدير منتجات تعتمد على التكنولوجيا المتوسطة إلى منطقة البلقان، بينما تستورد منها منتجات تعتمد على الموارد الطبيعية.
ختاماً، تعكس حالة اتخاذ القرار السياسي في دول البلقان بوضوح شديد التقاطع بين الثروات الدفينة والسياسات العامة، وأنّ القرارات السياسية لا تخرج من سيطرة الدائرة الاقتصادية، بل يظهر أثر العامل الاقتصادي متقدماً عند صياغة الأفكار السياسية، وخصوصاً في مراحل نشأة الدولة أو المراحل الانتقالية.
ولعل خير مثال على ذلك ما شهدته العلاقات التركية اليونانية، إذ تضعان حداً للخلافات السياسية المتجذّرة بينهما في سبيل تحقيق مزايا اقتصادية وتجارية، ولا شك أنّه -وللسبب ذاته- رأت أنقرة في الاتفاق الثلاثي في العاصمة اليونانية في مجال الطاقة سياسة عدائية تجاه تركيا، فسياسات عالمنا المعاصر تقع تحت القدرات الجوفية، وما نراه في دول البلقان مجتمعة ما هو إلا مادة حية للأثر الكبير للقوة الكامنة تحت طبقات القشور الأرضية في تحريك الملفات السياسية والتحكم بها.