تسعى حكومة إسرائيل إلى فرض قواعد اشتباك جديدة عبر استهدافها حركة الجهاد الإسلامي وجناحها المسلح سرايا القدس، وتنفيذ اغتيالات نوعية ومركَّزة لقيادتها، وتَجنُّب الاشتباك مع حركة حماس رغبة بتحييدها، الأمر الذي يشكّل ضغطاً عليها أمام الجمهور الفلسطيني ويحدث خللاً في إدارتها للمشهد المقاوم في قطاع غزة.
وهذه هي المرة الثالثة التي تسعى فيها إسرائيل لتكرار هذا المشهد وفرض معادلة الاستفراد لفصيل بعينه، إذ سبق أن نفّذ عملية اغتيال بحق القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا، تبعها جولة قتال مع سرايا القدس كان لها تأثير سلبي على صورة حماس والعلاقة مع حركة الجهاد الإسلامي.
وبعدها بسنتين خاضت جولة أخرى اغتالت فيها مجموعة من أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس كان أبرزهم تيسير الجعبري وخالد منصور، عقب اعتقال إسرائيل للقيادي في حركة الجهاد الإسلامي الشيخ بسام السعدي.
وفي كلتا الحالتين كان تقدير المقاومة وقتها عدم الانجرار لمواجهة موسَّعة في ظلّ استعداد الاحتلال الإسرائيلي العسكري.
يبدو أن إسرائيل فهمت سلوك حركة حماس وجناحها المسلح، كتائب القسام، بشكل خاطئ حين اعتبرت أن لديها القدرة على فرض هذه المعادلة، فبادرت هذه المرة بتنفيذ عملية اغتيال نوعية متزامنة لثلاثة من قادة سرايا القدس، إذ التقت مصلحة نتنياهو في استعادة زمام الأمور بعد الأزمة السياسية الخانقة التي مرّ بها منذ تشكيل حكومته الأخيرة، مع رغبة الجيش والأجهزة الأمنية بمحاولة ترميم الردع مع الفلسطينيين وتثبيت قواعد اشتباك جديدة مع المقاومة في قطاع غزة.
مرت الساعات الأولى بعد عملية الاغتيال، وتأخر ردّ المقاومة كأن إسرائيل قد تنجح هذه المرة أيضاً بحصر ردة الفعل الفلسطينية بعدة صواريخ تطلقها الجهاد الإسلامي لفترة محدودة ثم يسارع الوسطاء لوقف إطلاق النار.
إلّا أن المقاومة الفلسطينية عبر توظيف متقن للغرفة المشتركة والعلاقة المتينة بين حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس بإدارة النيران، وضعت مساعي إسرائيل في مأزق عبر معادلة تستمر فيها إطلاق الصواريخ بدءاً مما يسمى غلاف غزة، حتى استهداف تل أبيب والقدس المحتلة عوضاً عن مناطق أخرى متعددة.
ولأن دخول كتائب القسام على خط المعركة سيكون له معنى مختلف وسيحوّل مجرى الجولة القتالية لتصبح جولة مفتوحة، يتجنب الجيش الإسرائيلي حتى اللحظة استهداف كتائب القسام وقيادتها ومقارّها، الأمر الذي شكّل محدودية في أداء الجيش يقابلها مواصلة في إطلاق الصواريخ الفلسطينية، وحتى النوعية منها، التي استطاعت أن تحقّق إصابات غير مسبوقة وإجلاء لمستوطني الغلاف وإجبار حكومة إسرائيل على استمرار الطلب من المستوطنين النزول للملاجئ وشلّ للحركة في وسط وجنوب الكيان.
ردة فعل إسرائيل على ذلك جاءت منسجمة مع ما تسعى لتثبيته منذ بداية الجولة القتالية الحالية باستمرار استهدافها لقادة سرايا القدس، الأمر الذي يمنح المقاومة الفلسطينية في غزة وعبر الغرفة المشتركة وسرايا القدس استمرار إطلاق الصواريخ دون تَحوُّلها إلى حرب مفتوحة مع حركة حماس.
المهم للمقاومة الفلسطينية هو عدم السماح لإسرائيل بفرض قواعد الاشتباك التي ترغب بها وكسر محاولاتها لتمرير الردع.
فلا يمكن السماح لنتنياهو بتحويل قطاع غزة إلى مسرح عمليات مستباح يلجأ إليه في لحظات الأزمات السياسية الداخلية أو بتحقيق صور إنجازات أمنية وعسكرية على حساب الفلسطينيين.
حتى الآن، تبدو استراتيجية المقاومة الفلسطينية فاعلة في إيقاع نتنياهو في الفخ الذي نصبه بنفسه. وحتى في حال صعّدت إسرائيل هجماتها سواء بمزيد من الاستهداف للمدنيين أو توسيع الهجمات لتشمل حركة حماس وجناحها العسكري، يجب أن تُكسَر هذه المعادلة ولا يُسمَح بفرضها لأن عواقب ذلك ستكون وخيمة وستفقد غزة مع الوقت معادلة الردع التي فرضتها، بل وتمدد تأثيرها الذي فرضته في معركة "سيف القدس" في مايو/أيار عام 2021.
مرة أخرى تثبت المقاومة الفلسطينية قدرتها على اجتراح استراتيجية مقابلة لاستراتيجيات إسرائيل التي ما زالت تتمسك بنظريته الأمنية التقليدية القائمة على الاستباق والمعارك القصيرة وحصر المعركة في أرض الخصم.
فإذا كانت إسرائيل، لتفوقها العسكري والتقني وامتهان الغدر، قادرة على الاستباق في تنفيذ عمليات الاغتيال، فإن المقاومة أفقدتها عنصرَي التحكم في المدى الزمني للمعركة وحصرها في أرض خصم.
ومع إطالة أمد الجولة وتطور أداء المقاومة في غزة، سينتقل الضغط تدريجياً من كونه منصبّاً على جبهة المقاومة في غزة، إلى جبهة إسرائيل الداخلية. وقد يمتدّ ذلك مع اقتراب ما يسمى "مسيرة الأعلام" في القدس ليقترب من مشهد معركة "سيف القدس" باشتعال ساحات الضفة الغربية ومدن الداخل المحتلّ.
لطالما وُصف نتنياهو بـ"رجل الأمن"، إذ يرغب أن يوظف هذا الوصف بتعزيز شعبيته التي تهاوت خلال الأشهر الماضية وأراد بدماء الفلسطينيين الوصول إلى هذه الغاية. لكنه من حيث لا يحتسب، منح المقاومة الفلسطينية فرصة للإتيان على أهدافه. فلدى المقاومة اليوم فرصة لتحويل هذه الجولة لتكون محطة خاسرة جديدة لنتنياهو مع قطاع غزة عبر إفقاده ادّعاء استعادة الردع مع الفلسطينيين وتحقيق الأمن للجمهور الصهيوني.
وحتى على مستوى الأهداف السياسية المتعلقة بتجاوزه أزمته الداخلية واسترضاء حلفائه المتطرفين من الصهيونية الدينية واستعادة العلاقة مع المؤسسات الأمنية والعسكرية التي واجهته في أزمة التعديلات القضائية، سيكون بمقدور المقاومة، عبر إطالة أمد الاشتباك وتوزيع دائرة القصف وعدم منحه فرصة توسيع الاشتباك من طرفه ليطال حماس، أن تمنع نتنياهو من تحقيق أهدافه.
استطاعت المقاومة حتى الآن الحفاظ على قدرتها على السيطرة والتحكم بما يخدم أهدافها الخاصة والخروج من دائرة ردّ الفعل، وتفويت الفرصة لجرِّها إلى مربع تريده إسرائيل.
كما استطاعت تأكيد ثقة الشارع الفلسطيني بها وتعزيز دورها طرفاً فلسطينياً لديه القدرة على التأثير في المعادلات حتى عند إسرائيل نفسها. وأوصلت رسالتها الرئيسية بأن عمليات الاغتيال أو محاولات الاستفراد بفصيل دون غيره لن تمر كما يرغب نتنياهو.
لقد وضعت المقاومة الفلسطينية نتنياهو وجيش الاحتلال أمام سيناريوهات، إما التراجع أمام استمرار القصف، وإما الذهاب إلى ما لا يرغب به، إذ يحتاج إلى مقاربة ميدانية وداخلية وحتى دولية جديدة.
فما زال الدخول بحرب واسعة مع غزة غير مرغوب به أمريكياً، لاحتمالية أن تعقّد المشهد الإقليمي برمته إن طال أمدها.
فإسرائيل بدأت بالعدوان، وخروج الجولة عن مداها المتوقع سيحمّلها مزيداً من الضغوط التي لا يرغب نتنياهو في استجلابها وإتاحة المجال لخصومه الداخليين وفي واشنطن أيضاً للنفاذ منها مرة الأخرى لوضع ضغط عليه يؤثّر في معادلته الداخلية. في المقابل، فإن وضعية المقاومة الفلسطينية اليوم أفضل في فرض مواجهة بالشكل الذي ترغب به.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.