فالرئيس ميشال عون وجد في التدقيق الجنائي سبيلاً لحلّ كل الأزمات التي تُغرق لبنان، من تعثر تشكيل حكومة جديدة، إلى بدء رفع الدعم عن السلع الأساسية مما ينذر بارتفاع الأسعار، والمزيد من الانهيار النقدي، وصولاً إلى استمرار تفشي جائحة كورونا وحصد الوباء أرواح العشرات كل يوم.
فالرئيس يعتبر أن التدقيق الجنائي هو الذي سينتشل لبنان واللبنانيين من أزماتهم. القوى السياسية الأخرى لا تخالف رئيس الجمهورية تأكيده على ضرورة وأهمية التدقيق الجنائي لمعرفة مسارب الهدر والفساد في حسابات المصرف المركزي، ومتابعة الأسباب التي أدت إلى الانهيار النقدي ومحاسبة المسؤولين عنه، لكنها تتهم رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بأن تركيزهم على ملف التدقيق الجنائي وإهمال القضايا الأخرى هي محاولة للهروب إلى الأمام، في ظل تزايد الإشارات الداخلية والخارجية التي تُلقي باللوم على رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بالمسؤولية عن عرقلة تشكيل الحكومة.
قرائن كثيرة يقدمها معارضو الرئيس للدلالة على أن رفع راية التدقيق الجنائي هي محاولة مكشوفة لصرف الأنظار عن القضايا والمشاكل الحقيقية التي أخفق رئيس الجمهورية، الذي بدأ ولايته الرئاسية بشعار "العهد القوي"، في إيجاد حلّ لأي من مشاكل اللبنانيين التي تتفاقم يوماً بعد يوم.
معارضو الرئيس عون وتياره السياسي يذكّرون بأن حضور هذا التيار في مؤسسات الدولة بدأ عقب الانتخابات النيابية عام 2006، حين صار "التيار الوطني الحر" بزعامة عون شريكاً أساسياً في السلطة، ليتحوّل منذ عام 2016 إلى رأس هذه السلطة من خلال وصول عون إلى القصر الرئاسي وهيمنة تياره على معظم مواقع الدولة ومؤسساتها التي تخص المسيحيين.
لكن رغم وجود العماد عون في السلطة منذ 15 عاماً ووصوله إلى قمة هرمها قبل أربع سنوات لكنه لم يبادر لأي خطوة ملموسة باتجاه فتح ملف التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان رغم قدرته حينها على فعل ذلك، في حين أنه اليوم، وفي ظل الانهيار الاقتصادي والنقدي الذي يرزح تحته اللبنانيون، وفي موازاة العجز عن الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة، أهمل الرئيس عون كل ذلك وطالب بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي يتهمه رئيس الجمهورية بالمسؤولية عن الانهيار الحاصل.
وما يدعم هذه النظرية حسب معارضي الرئيس هو أن حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الذي يتولّى إدارة المصرف منذ عام 1993 جرى التجديد له عام 2017 أي في ظل ولاية عون الرئاسية، ولو كان الرئيس يعتقد أن سلامة خالف القانون أو ارتكب أخطاء أو قصّر في أداء واجباته مما أدى إلى الأزمة النقدية الحالية كان حريّاً به، على الأقل، رفض التجديد له على رأس مصرف لبنان، لكن ذلك لم يحصل، وهذا يدعم التشكيك في صدق النوايا وراء المطالبة بالتدقيق الجنائي.
قرينة أخرى يقدمها معارضو رئيس الجمهورية للدلالة على عجزه وعدم جدية مساعيه للتخفيف من حدة الأزمة التي يعيشها اللبنانيون، تتمثل بتمسكه بالتحالف مع حزب الله ومنحه الغطاء للتدخل في دعم النظام في سوريا والحوثيين في اليمن وعدد من الدول الأخرى.
هذا التدخل أدّى إلى عزل لبنان عن محيطه العربي، وتحفّظ الكثير من الدول التي اعتادت تقديم الدعم للبنانيين للإحجام ووقف مساعداتها، مما أسهم في تعميق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها.
هذا فضلاً عن التزام رئيس الجمهورية الصمت إزاء ازدهار التهريب عبر المعابر غير الشرعية مع سوريا. ولو كان عون حريصاً على معالجة الأزمة لطلب من حزب الله أن يوقف تدخلاته الخارجية ولضغط على الأجهزة الأمنية لوقف التهريب إلى سوريا لكنه لم يفعل.
معارضو رئيس الجمهورية يؤكدون ضرورة التدقيق الجنائي، لكن ليس في حسابات مصرف لبنان فحسب، بل قبل ذلك في حسابات وزارة الطاقة، التي أشرف عليها وزراء من فريق رئيس الجمهورية منذ عام 2006 وحتى اليوم ويرفضون التخلّي عنها.
فالعجز المالي لوزارة الطاقة يشكل وحده ثلث الدَّين العام بقيمة بلغت أكثر من 44 مليار دولار، في ظل تردّي التغذية بالتيار الكهربائي واستنزاف الخزينة المتواصل لتمويل شراء مادة الفيول الضرورية لتشغيل معامل الكهرباء. فلو كان رئيس الجمهورية حريصاً على خزينة الدولة ويريد ضبط الهدر وكشف مكامن الفساد لطالب بالتدقيق في حسابات وزارة الطاقة التي يُشرف عليها فريقه السياسي ولم تقتصر مطالبته بحسابات مصرف لبنان.
ملف التدقيق الجنائي ليس جديداً في لبنان،فقد بدأ في يوليو/تموز من العام الماضي حين قررت الحكومة اللبنانية بناء على طلب الرئيس إجراء تدقيق جنائي بحسابات المصرف المركزي، وكلفت لهذه الغاية شركة تدقيق دولية هي "ألفاريز مارسال".
لم تصمد شركة التدقيق أكثر من أسابيع قليلة لتعلن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي انسحابها من مهمتها، مرجعة السبب إلى عدم تلقيها المستندات التي طلبتها من مصرف لبنان لإتمام مهمتها.
في المقابل أعلن مصرف لبنان أن امتناعه عن تقديم المستندات المطلوبة سببه تجنب مخالفة قانون السرية المصرفية المعتمد في لبنان. هذا القانون الذي يلتزم به لبنان منذ عام 1956، وهو يمنع كشف أي معلومات تتعلق بهويات المودعين وقيمة الودائع وحركة هذه الودائع لأية جهة كانت، سواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية.
وقد شكل قانون السرية المصرفية طوال العقود الماضية دافعاً لجذب رؤوس الأموال والودائع من الخارج خاصة من دول عربية وأجنبية وتوفير مناخ من الاستقرار الاقتصادي. انسحاب شركة التدقيق الدولية شكل انتكاسة كبيرة للدولة، فالتدقيق المالي مطلب أساسي ليس للرئيس عون فقط، بل للجهات الدولية المانحة وصندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان على الخروج من الانهيار المالي، كما ورد ضمن بنود المبادرة التي أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمساعدة لبنان على مواجهة أزماته.
في محاولة لتلافي الأسباب التي أدت إلى انسحاب شركة التدقيق، أقرّ مجلس النواب في ديسمبر/كانون الأول الماضي قانوناً سمح برفع السرية المصرفية لمدة سنة، ليس عن حسابات المصرف المركزي بل ضمّ إليه حسابات جميع الوزارات والإدارات، وجرى التواصل مرة أخرى مع شركة التدقيق لإعادة إطلاق ملف التدقيق الجنائي.
وقد اعتبر خبراء اقتصاديون أن توسيع نطاق رفع السرية ليشمل جميع مؤسسات الدولة هو تفخيخ مبطن لملف التدقيق الجنائي، ومحاولة لإجهاضه من خلال إغراقه بحسابات أكثر من 1200 مؤسسة عامة يفترض أن يشملها التدقيق خلال عام واحد هي المدة التي أقرها مجلس النواب لرفع السرية المصرفية.
معارضو الرئيس عون يستندون على تعثر مسار ملف التدقيق الجنائي والصمت إزاء الملفات الأخرى التي لا تقلّ أهمية للدلالة على عدم جدية رئيس الجمهورية، ومحاولة للهروب من مسؤوليته في إيجاد حلول للأزمات التي يعانيها اللبنانيون.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.