تابعنا
كان السودان في وعي المحيط الإفريقي الجَمعيّ هذا بمثابة حاضرة البداوة، ومدينة الريف، وكعبة العلم، ومركز التسوّق، وقِبلة التداوي، ومحطة الانتظار، ومحل الاستقرار، ودار الحكمة، ومنازل الإيواء، وسوق العمل، وطريق الحج الإفريقي القديم.

ربما كان السودان بلداً غامضاً لدى كثير من الشعوب كحال كثير من البلدان الإفريقية الفقيرة، رغم اتساعه الشاسع وموقعه الاستراتيجيّ وبيئاته المنوّعة وثقافته الغنيّة وثرواته الكبيرة التي تتنافسها القوى الدولية والإقليمية في الخفاء، وكثيراً ما يحمّل السودانيون أنفسهم نتيجة هذه الجهالة ببلادهم، ويتحدثون عن الفرص الضائعة التي تتسبب بها هذه الجهالة الطويلة التي بلَغت حدّ اتهام الآخرين بالمؤامرة في استمرارها من بعض المثقفين الغاضبين.

ولكنَّ هذا السودان المجهول لنا هو في حقيقة الأمر عميق الأثر والتأثير في محيطه الإفريقي، وهو وثيق المعرفة به، لا سيما في جنوبه وغربه وشرقه، فقد كان السودان في وعي المحيط الإفريقي الجَمعيّ هذا بمثابة حاضرة البداوة، ومدينة الريف، وكعبة العلم، ومركز التسوّق، وقِبلة التداوي، ومحطة الانتظار، ومحل الاستقرار، ودار الحكمة، ومنازل الإيواء، وسوق العمل، وطريق الحج الإفريقي القديم.

ولذلك كنت تجد فيه الملايين من المهاجرين والنازحين والباحثين عن فرص العمل والأمن الاجتماعيّ من إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى وتشاد والكاميرون ومالي وبعض دول غرب إفريقيا، وهذا النزوح كان فردياً وجماعيّاً عبر عقود طويلة من الحركة المفتوحة عبر الحدود الممتدة بين هذه الدول التي تتداخل فيها القبائل والعادات والمراعي والثروات وشبكات التصوّف.

كان الأفارقة المسلمون في جنوب السودان، وفي شمال إثيوبيا وغربها، وشرق تشاد، وشرق إفريقيا الوسطى، أكثر الأفارقة تأثّراً بالحرب الدائرة الآن، فقد كان السودان مركز التعليم الديني الأساسي لأبنائهم، سواء كان تعليماً رسمياً في الجامعات والمعاهد الدينية السودانية، أم كان تعليماً تقليدياً في "خلاوى" تحفيظ القرآن المنتشرة في معظم المناطق الحدودية والداخلية.

وكان يتمتع الدارس بكل الخدمات من طعام وشراب وإقامة وتعليم طيلة مدة ارتباطه بالخلوة، كما أنّ هذه "الخلاوى" مراكز تصوف تنتشر من خلالها الطرق الصوفية وتنشر زواياها، ويتسلّم طلابها هذه الزوايا الجديدة في المناطق التي يعودون إليها بعد اكتمال مراحل تعليمهم، كما تُسهم هذه الزوايا في نشر الإسلام وتمكينه في نفوس هذه المناطق النائية في القارة الإفريقيّة ونشر اللغة العربيّة.

وقد تسببت الانفلاتات الأمنية وانتشار عمليات النهب المسلح وقطع الطرق في المناطق التي انسحب منها الجيش والأجهزة الأمنية في تراجع دور هذه "الخلاوى" والجامعات والمراكز التعليمية والدعوية، كما انقطعت عنها الموارد المستقلة التي تجعلها قادرة على الاستمرار، مما اضطر مشيخات عديدة لهذه "الخلاوى" إلى أن تقبل تدخّلات قوات الدعم السريع في شؤونها بغرض تأمين احتياجات من تبقّى من الطلاب المنقطعين فيها، وتأمين حياتهم.

كما كان السودان مدخلاً مهماً للبضائع القادمة من البحر الأحمر عبر مواني بورتسودان وسواكن وغيرها، بالإضافة إلى البضائع القادمة من مصر، وكانت خطوط النقل العابر للأقطار "الترانزيت البرّيّ" تأتي من السودان لتغذي الأسواق الإفريقية الداخلية التي لا تُطلّ على البحار، مثل تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا.

وكان التجار الأفارقة يقيمون معظم أوقاتهم في السودان، ولهم فيها عائلات وأسر ومستودعات وشركات، وقد تعرّضت كلها للنهب والتدمير والتعطيل خصوصاً في ولاية الخرطوم مما أفقدهم رؤوس أموالهم واستثماراتهم، وعرّضهم لخسارات كبيرة دفعت بعضهم لتعويضها عبر تحالفات مشبوهة مع الميليشيات القَبلية التي تكاثرت في ظل هذا الفراغ الأمنيّ والفوضى الضاربة، كما تعرّضت الطرق الداخلية للنهب المنظّم، وتغيرت ملامح الطرق وطبيعة الخدمات المقدمة فيها ونوعيّتها، التي كانت موئلاً مهماً للجاليات الإفريقيّة الباحثة عن استثمارات صغيرة في مناطق بعيدة عن العمران.

وقد تأثرت أيضاً العمالة الإفريقية الحدودية التي كانت تأتي بالآلاف إلى السودان في مواسم الزراعة المطرية ومواسم حصاد محاصيل السمسم والذرة والفول السوداني والكركديه في ولايات القضارف وسنّار والنيل الأبيض والنيل الأزرق وولايات كردفان الكبرى ودارفور الكبرى.

وانعكست الفوضى الأمنية على هذه القوى العاملة بشدّة، ودفعتها للبحث عن خيارات بديلة قد تكون خطرة، وعلى رأسها الانخراط في الميليشيات والعصابات إضافةً إلى الهجرة غير الشرعية إلى شمال إفريقيا وسواحل أوروبا؛ مما عرّضهم لعشرات الحوادث الخطيرة التي تتجاهلها وسائل الإعلام في أثناء عبورهم الصحارى المقفرة ومتاهاتها المجهولة وعصاباتها المنفلتة.

ودفعت احتياجات الحرب كثيرين من العمالة الإفريقية إلى المبادرة بتأسيس مجموعات عصابيّة جديدة تعمل في قطاع تهريب السلاح والبشر والوقود والمواد الأساسية وبعض المعادن النفيسة المحظورة، كما أنّ بعضهم وُظِّفوا في مهمات ذات طبيعة استخبارية أجنبيّة؛ مما يعني أنّ ثمة اختراقاً كبيراً تطوّر فيهم قد يؤدي إلى مخاطر مستقبليّة حقيقية على الدولة السودانية مع استئناف قيامها من كَبْوتها واستعادة فاعليتها بانتهاء الأزمة المستفحلة القائمة.

كما أنّ الاستقطاب القبليّ الحادّ قد دفع جماعات إثنيّة كبيرة إلى موجات واسعة من الهجرة عبر نظام "الفَزْعات" القبليّة من مناطق واسعة من تشاد والنيجر وجنوب ليبيا وإفريقيا الوسطى ومالي لدعم حلفائها القبليين في ولايات الخرطوم والجزيرة والولايات الأخرى، مما أدى إلى نشوء طبقة اجتماعية مهاجرة بدأت تبحث عن الاستقرار وفرص حياة جديدة من خلال نظام الحياة شبه العسكرية في ميليشيات عصابيّة.

وبما أنّ أكثر هؤلاء المجندين من الشباب فإنهم يتصاهرون مع مكونات قبليّة شبيهة مقيمة في هذه الولايات من قبل، فتنشأ طبقة جديدة من المكوّنات السكانية التي ركّبت حياتها على أملاك المواطنين الغائبين أو الهاربين من مناطق الحرب والنزاع، واستولت على منازلهم وأراضيهم ومرافقهم، وبنت حياةً خاصّة بها في هذه المناطق الجديدة، وقررت أن تدافع عنها كأنّها ملك شخصيّ لها.

ولكنّ الإشكال الذي يحفر عميقاً في جدار العلاقات الاجتماعية بين المجموعات والإثنيات الإفريقية المقيمة في السودان أو العابرة منه وإليه، يتمثل في ضخامة الانتهاكات بحق المجموعات والمكوّنات الصغيرة غرب السودان، وإجبارها على الدخول في التحالفات الموالية والمعارضة لدوائر الاستقطاب السودانية، إضافةً إلى تعرّضها لسلسلة من أكبر عمليات التهجير والطرد والإبادة في أماكن النزاع.

ودفعهم ذلك إلى الفرار إلى معسكرات نزوح لا تتوفر فيها أيّ مقومات الحياة الكريمة؛ كما جرى استغلال أوضاعهم المعيشية والاقتصادية المتردية في استقطابهم داخل مجموعات عسكرية متمردة، مما جعل قطاعات شعبية واسعة تنظر إليهم على أنهم مرتزقة يجب الحذر منهم وعدم التعامل معهم، ومراجعة جميع سجلات الجنسيّة السودانيّة التي مُنحت لعشرات الآلاف من هؤلاء في فترة الانفلات الأمنيّ وانهيار منظومة الأمن القوميّ السودانيّ وعِظَم التدخّلات في عَظْم السيادة السودانيّة.

وتسبب كل هذا في نشوء حواجز نفسية عازلة ستؤثر بشكل كبير في مستقبل التعايش القبليّ والعرقيّ في السودان، وسيعيد سؤال الهويّة بشدة إلى صدارة الجدال الاجتماعيّ الذي لم يُحسم بعد في السودان رغم مرور نحو سبعين عاماً على الاستقلال.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً