فالانتخابات المرتقبة تمثل تتويجاً للمسار السياسي الحالي الذي ارتأته البعثة الأممية مدفوعة باللاعبين الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تم تمريره من خلال مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي.
في الوقت الحالي تبدو احتمالية إقامة الانتخابات الليبية ممكنة أكثر ممَّا مضى، وذلك بالنظر للدفع الدولي المستمر بهذا الاتجاه، وتجاوب الأطراف الليبية نسبياً مع هذه المساعي. التفاؤل بالقدرة على عقد الانتخابات يتسق مع الإنجازات غير المتوقعة التي حققتها جهود الوساطة الأممية من قبيل انتخاب مجلس رئاسي ورئيس وزراء جديد في ليبيا في فبراير/شباط الماضي، ومن ثم نجاح رئيس الوزراء المنتخَب من قبل ملتقى الحوار عبد الحميد دبيبة في تشكيل الحكومة، بل وحتى في نيل ثقة مجلس النواب في سابقة هي الأولى منذ عام 2014.
آخر إنجازات الوساطة الأممية والمساعي الدولية تمثل في خطوة إعادة فتح الطريق الساحلي، والذي مثل إشارة إيجابية وتمهيدية للانتخابات العامة المرتقبة في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
فالطريق الذي كان قد أغلق في أبريل/نيسان 2019 تعثرت عملية افتتاحه سابقاً، على الرغم من الاتفاق على ذلك من قبل لجنة 5+5 في أكتوبر/تشرين الأول 2020. إلا أن ضغوط الأطراف الدولية وتحديداً البعثة الأممية والسفير الأمريكي على كلا الطرفين، سواء غرفة عمليات سرت الجفرة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية أم حفتر ومعسكره، في هذا الاتجاه نجحت أخيراً في تجاوز هذه العقبة، والتي مثلت خطوة رمزية نحو إعادة توحيد شطري البلاد.
وقد كان لافتاً أيضاً تجاوب خليفة حفتر مؤخراً مع المسار الدولي، وهو ما بدا من خلال إعلانه الأخير عن دعمه لفتح الطريق الساحلي. اتساق حفتر الذي دعا "للتسجيل بكثافة في سجلات منظومة الانتخابات القادمة" مع المساعي الدولية الممهدة للعملية الانتخابية المرتقبة يشير إلى مراهنته على خيار الانتخابات التي يراها وسيلة للوصول للسلطة. لكن هذا لا ينفي إبقاء حفتر للخيار العسكري في جعبته، وذلك في حال فشل رهانه على الانتخابات.
في مقابل المضي قدماً في هذا المسار وعلى رأسه التهيئة للانتخابات، فإن البعثة الأممية والمجتمع الدولي يتجنبان العديد من القضايا الجوهرية، وعلى رأسها توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا. فمشاكل ليبيا، وعلى رأسها مشروع حفتر الذي يهدد وحدة الأراضي الليبية ويعرقل عملية الانتقال السياسي، تم التغاضي عنها لصالح ترتيب الانتخابات التي يبدو أنها قد أصبحت هدفاً بحد ذاتها.
لكن فضلاً عن نجاعة الانتخابات، إن تمت، ضمن الشروط الحالية في علاج الأزمة الليبية، فإن شكوكاً جدية تحوم حول إمكانية تطبيق مقاربة "الانتخابات أولاً".
فسيناريو إقامة انتخابات حرة ونزيهة في عموم الأراضي الليبية، وتحديداً في الشرق الليبي تحت سيطرة حفتر، يبدو مستبعداً. فكيف يمكن توقع إقامة حملات انتخابية نزيهة وانتخابات خالية من التجاوزات القانونية في الوقت الذي ما زال فيه المهجرون من الشرق الليبي غير قادرين على ضمان سلامة عودتهم إلى بيوتهم التي هجروا منها بعيد حملة حفتر العسكرية؟ هذا في الوقت الذي ما زالت فيه جرائم من قبيل اختطاف النائبة سهام سرقيوة واغتيال الناشطة الحقوقية حنان البرعصي، بعد انتقادهما لحفتر وتغول المليشيات المسلحة في بنغازي، تمر دون أي حساب.
نزاهة جو الانتخابات لا يجب أن تقتصر فقط على عودة شكلية لحكومة الوحدة الوطنية للشرق الليبي التي قد تتم بوساطة مصرية، بل أن يتعدى ذلك لضمان عدم ملاحقة الناشطين السياسيين لاحقاً، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل بقاء سلطة مسلحة كمليشيات حفتر خارج سيادة الدولة.
وفي السياق نفسه فإن احتمالات نشوب "عنف ما بعد الانتخابات" لا تبدو مستبعدة. فهذه الظاهرة التي ترتبط عادة بمراحل الانتقال الديمقراطي المبكر وبلدان ما بعد النزاعات تبدو أكثر احتمالية في الحالة الليبية؛ إذ إن فوز أي مرشح من المعسكر المقابل في أي من المناطق الليبية، وتحديداً في الشرق، قد يكون كافياً للردة عن الانتخابات بل وحتى تهديد الفائزين فيها.
في المقابل فإن حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها دبيبة، والتي ينص الاتفاق على أنها ستقود المرحلة التمهيدية للانتخابات في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول القادم، قد تسعى لإطالة فترة بقائها في السلطة. لكن بقاء حكومة دبيبة إلى ما بعد الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول سيدخل البلاد في أزمة سياسية، ويعمق من حالة غياب الشرعية السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد.
كما أن هذا السيناريو قد يؤجج صراعات جديدة، خاصة أن العديد من الجهات السياسية، وعلى رأسها شخصيات بارزة في حكومة الوفاق السابقة لحكومة الوحدة، كانوا قد وافقوا على حكومة دبيبة نظراً لمحدودية الدور الموكل إليها، والمرتبط بشكل رئيسي بالتحضير للانتخابات.
وقد كان لافتاً في الأيام الأخيرة تصريح رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بأن البلاد قد تعود للاضطرابات وإلى المربع الأول إذا ما تم تأجيل الانتخابات، ما يعطي الانطباع بأن الانتخابات قد تحولت إلى أداة للضغط السياسي، وللمفارقة من قبل الأطراف نفسها التي عطلت العملية السياسية في ليبيا: حفتر وعقيلة صالح.
تبدو احتمالية إقامة الانتخابات المرتقبة في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول القادم أقرب من أي وقت مضى. فالبعثة الأممية تبذل جهوداً واضحة في سبيل تسهيل الصعوبات أمام هذا الخيار، وتفعل ذلك مدفوعة باللاعبين الأوروبيين الذين يبحثون عن إنجاز دبلوماسي، والولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في بوابة الانتخابات وسيلة لإعادة ضبط المشهد في ليبيا والحد من نفوذ روسيا. كما أن الانتخابات تبدو مغرية لخليفة حفتر ومعسكره الذي يعول عليها للسيطرة على المشهد السياسي بأدوات "شرعية" هذه المرة، بعد أن فشلت محاولاته في السيطرة على المشهد الليبي عسكرياً. وفي حين تبقى الشكوك حول قدرة هذا الاستحقاق الانتخابي، الذي يأتي تتويجاً للمسار السياسي الحالي، على معالجة جذور الأزمة الليبية أو إعادة الاستقرار إلى ليبيا، فإن ثورة فبراير/شباط تبدو الغائب الأكبر عن المشهد.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.