لا شك أن الزلزال المدمر الذي ضرب عشر ولايات تركية الأسبوع الماضي لا يعد ضربة قوية للبنية التحتية والأبنية لتلك الولايات فقط، بل أيضاً ضربة قوية للاقتصاد التركي بكل قطاعاته، والذي ما لبث أن بدأ التعافي من أزمة كورونا محققاً سلسلة من الأرقام غير المسبوقة في تاريخ البلاد، خالقاً حالة كبيرة من التفاؤل حول نتائج ومؤشرات اقتصادية أفضل في العام الجديد.
ورغم التداعيات الوقتية للزلزال على بورصة إسطنبول للأوراق المالية التركية والتي هبط مؤشرها الرئيسي بنسبة 4.30%، مع تهاوي قطاع البنوك بأكثر من 5%، ووفق الأرقام الرسمية إذ شهدت بورصة إسطنبول تراجعاً نسبته 16.2% خلال أول ثلاثة أيام بعد الزلزال، أي في الفترة من 6 إلى 8 فبراير/شباط، قبل إلغاء الجهات الرقابية تعاملات يوم الثلاثاء وتعليق العمل بالبورصة لمدة خمسة أيام، فقد عوضت البورصة هذه الخسائر في اليوم الأول لاستئناف التداول بعد قفزتها بنسبة 9% دفعة واحدة
وكذلك كان الهبوط المؤقت والبسيط للغاية لليرة التركية التي سرعان ما انخفضت إلى 18.85 ليرة في مقابل الدولار، لكن سرعان ما عادت الليرة صعودها مرة أخرى لتستقر عند معدلاتها قبل الزلزال تقريباً، كما عادت الكهرباء والمياه والانترنت إلى ما يزيد على 95% من مناطق الولايات المنكوبة.
ويشير هذا التعافي السريع للبورصة والليرة والبنية التحتية الرئيسية إلى البنيان القوي للاقتصاد التركي وأن الآمال حول تجاوز محنة الزلزال كبيرة، خاصة في ظل حالة التلاحم الكبير بين مكونات المجتمع التركي المختلفة وبين حكومته، وكذلك في ظل التعاطف العالمي والعربي الكبير والذي وُصف في مجمله بأنه محاولة لرد الجميل للشعب والقيادة التركية.
يجب الاعتراف بداية بفداحة الخسائر الاقتصادية جراء الزلزال، إذ تنتج الولايات المنكوبة العشر ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي دفع البعض إلى تقدير الخسائر الاقتصادية بما يقارب 84 مليار دولار، بخلاف خسائر الأبنية المهدمة بصورة كلية أو جزئية والتي قاربت 7000 مبنى تقريباً، من بينها مباني الأعمال وهو الأمر الذي يعني أن نسبة لا يستهان بها من بنية العمل في تلك الولايات توقفت عن العمل، ولا تحتاج فقط إلى مبانٍ ولكن أيضاً إلى آلات ومعدات جديدة وكذلك إلى العمال.
مرونة وتنوع الاقتصاد التركي
تميز النمو الاقتصادي لتركيا خلال الأعوام العشرين الأخيرة بخصائص شديدة الأهمية ستعينه على النهوض السريع من تداعيات الكارثة، وأول هذه الخصائص كونه منتشراً بتوازن بين جميع الولايات التركية، التي تتميز كل منها على حدة بإحدى الصناعات أو الزراعات أو المقدرات السياحية التي تميزها عن غيرها، كما أن هذا الاقتصاد يمتاز بالتنوع الكبير على مستوى القطاعات الاقتصادية الرئيسية أو على مستوى التقسيم داخل القطاعات.
المرونة والتنوع والانتشار يعني أنه إذا كانت العجلة الإنتاجية ستتباطأ نسبيا في العشر ولايات المنكوبة فإنها ستدور بأقصى سرعة فيما يزيد على 70 ولاية أخرى، وهذا ليس من قبيل التمني، فالطلب على المنتجات التركية للتصدير حاضر وبقوة. وتستطيع المصانع القائمة زيادة عدد ساعات عملها، لا سيما في ظل توافر العمال الأكفاء المهجرين من المناطق المنكوبة وبالتالي تعويض نسبة غير قليلة من الإنتاج المفقود جراء الكارثة.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن القطاع الزراعي في الولايات المتضررة سيكون الأقل تأثراً سلبياً بين القطاعات الاقتصادية، ومع العودة السريعة المتوقعة للطرق والمطارات والمواني سيستمر تدفق السلع الزراعية من هذه الولايات نحو الداخل التركي ونحو التصدير كذلك.
الاقتصاد التركي عبر كثير من الأزمات
يشير التتبع التاريخي لمسار الاقتصاد التركي إلى تعرضه لسلسة متوالية من الأزمات خلال الأعوام العشرين الأخيرة، ونجاحه المشهود ليس فقط في عبورها لكن أيضاً في تحويلها إلى فرص للتطور والنمو، فيجب ألا ننسى أن سعر صرف الليرة التركية في مطلع الألفية الجديدة كان أمامه ستة أصفار، وكذلك كان معدل التضخم بالآلاف، لكن لم تمر عدة سنوات حتى استطاعت تركيا حذف الأصفار الستة، والهبوط بمعدل التضخم إلى خانة الآحاد.
وبعد أقل من خمس سنوات من الصعود والنجاح حدثت الأزمة المالية عام 2008، والتي رزحت اقتصادات عتيدة تحت تداعياتها الثقيلة لما يقارب عقداً كاملاً، ولكن الاقتصاد التركي الناشئ آنذاك استطاع لملمة أوراقه سريعاً وأحدث تعافياً ملحوظاً خلال ثلاثة أعوام فقط، وعندما حدثت الهجرة السورية الواسعة نحو الأراضي التركية بعد ثلاث سنوات فقط من الأزمة العالمية استطاع الاقتصاد التركي استيعاب ما يزيد على 4 مليون سوري داخل قوة العمل الكلية، بل وتحويلهم إلى قوى إنتاجية حقيقية أسهمت في النمو المستمر والمتصاعد للناتج المحلي الإجمالي.
ولم تمر خمسة أعوام أخرى حتى كان الانقلاب الفاشل عام 2016، وما تبعه من خفوت اقتصادي نسبي، لكن سرعان ما نجحت الحكومة في الاستمرار على المؤشرات الاقتصادية المتصاعدة وفي مقدمتها القطاع السياحي الذي حقق المركز السادس علي العالم بعدد سياح زاد على 52.5 مليون سائح، كما استمر صعود الصادرات التركية.
وفي نهاية الربع الأول من عام 2020 حدثت إغلاقات كورونا، والتي نجح الاقتصاد التركي في عبور أزمتها بعد عام واحد فقط، ثم أحدث بنهاية العام الماضي طفرات غير مسبوقة في الصادرات التي بلغت 255 مليار دولار، من بينها 125 مليار دولار للصادرات الصناعية، ولأول مرة 4 مليار دولار لصادرات الأسلحة، وحقق عوائد سياحية قياسية تجاوزت 45 مليار دولار.
أزمات قاسية عديدة ومتلاحقة في فترات قصيرة عبرها الاقتصاد التركي بنجاح كبير، وكلها تجارب لا تبشر فقط بنجاح الشعب والحكومة التركية في عبور الأزمة الحالية، بل، وكما حدث مراراً، النجاح في تحويلها إلى فرص للنمو والصعود، وكل مشاهد التكاتف والتلاحم الحالية تؤكد ذلك.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.