اهتمام غير متوقَّع وغير معهود من الأمريكان في الملف اليمني قديماً وحديثاً، لكن من يعي حجم الصراع الذي كان قائماً بين بايدن وترامب، يدرك سبب هذا الاندفاع الأمريكي في الاهتمام بملف اليمن منذ أول لحظة لوصول بايدن إلى البيت الأبيض.
بادرت إدارة بايدن باتخاذ عدة قرارات تتعلق بالأزمة والحرب في اليمن، وكان في مقدمتها قرار إلغاء تصنيف جماعة الحوثي جماعةً إرهابية، وقرار وقف بيع الأسحلة للتحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية، إضافةً إلى قرار تعيين أول مبعوث أمريكي خاص باليمن، تيموثي ليندركنغ، وكانت ربما هذه من أولى القرارات، التي اتخذتها الإدارة الأمريكية الديمقراطية التي صعدت في ظرف أمريكي غاية في التعقيد وبالغ الصعوبة بعد أزمة الانتخابات الأخيرة.
فما سرّ هذا الاندفاع الأمريكي الكبير باتجاه الملف اليمني؟ وهل هذا الاندفاع ينبئ بالفعل عن تحول جذري في الرؤية الأمريكية للأزمة والحرب في اليمن؟ وهل تمتلك أمريكا مقومات إنهاء الحرب والدفع بالجميع نحو السلام، في ظل وضع أزمة يمنية بالغة التعقيد، وليست وليدة هذه اللحظة بقدر ما هي أزمة ضاربة جذورها في تاريخ اليمن السياسي؟ وما الرؤية الأمريكية للحل عموما؟ وهل تمتلك ضمانات نجاحها؟
حقيقة التوجه الأمريكي الجديد
مثّلَت أزمة نتائج الانتخابات الأمريكية التي أعقبتها أزمة عدم اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب بنتائجها، وقراره من قبلُ تصنيفَ جماعة الحوثي جماعة إرهابية، دفعت كل هذه القضايا إدارة جو بايدن إلى حلحلة أزمة اليمن، وذلك كردّ فعل لما يُقال عن دعم سعودي إماراتي لحملة ترامب الانتخابية، إضافة إلى مقاربة أمريكية أكثر هدوءاً تجاه الملف الإيراني.
اتخذت إدارة بايدن جملة من القرارات، كإلغاء تصنيف جماعة الحوثي جماعة إرهابية، ووقف بيع السلاح للتحالف العربي السعودية-الإمارات، وتعيين مبعوث أمريكي خاص باليمن، إضافةً إلى محاولة هذه الإدارة الظهور كإدارة جديدة وبسياسات جديدة ومختلفة عن سياسات الإدارة السابقة، فضلاً عن تقديم هذه الإدارة نفسها كملتزمة لجماهيرها الانتخابية ببرنامجها الانتخابي الخاص بالسياسة الخارجية وفي مقدمتها وقف الحرب في اليمن.
من هنا، فإن جل الموقف الأمريكي اليوم تجاه اليمن نابع من رد فعل أولاً على سياسات وقرارات مرحلة ترامب، وثانياً البحث عن عودة أمريكا إلى المنطقة ولكن من الزاوية الدبلوماسية، لا من زاوية الحرب والحضور العسكري هذه المرة.
اليمن في الاستراتيجية الأمريكية
على مدى عقود ما بعد قيام النظام الجمهوري في اليمن، بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، ظلّ اليمن من منظور أمريكي حديقة خلفية للسعودية، وبالتالي لم يكن اليمن يمثل للأمريكان أي أهمية وكانت كل السياسات الخاصة باليمن يُكلَّفها الجانب السعودي، وظل هذا الوضع طوال عقود ما بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول التي لم تعترف بها الولايات المتحدة إلا في 19 ديسمبر 1962، أي بعد قيام الثورة بثلاثة أشهر.
وأما بعد الوحدة اليمنية في مايو/أيار 1990، وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد بدأ فصل ومرحلة جديدة من السياسات العالمية يتشكل، إضافة إلى تصاعد ظاهرة الإرهاب، الذي بدأ أولى عملياته في اليمن، بمهاجمة فندق عدن عام 1992، الذي كان فيه حينها خبراء أمريكان، إضافة إلى عملية "يو إس إس كول". التي هُوجمت أمام سواحل عدن في أكتوبر/تشرين الأول 2000 وسقط فيها عدة ضباط أمريكان.
ومنذ هذه العملية والأمريكان يقاربون الملف اليمني من زاوية الإرهاب فقط، باعتبار اليمن مشكلة أمنية لهم أولاً وأخيراً، وهذا المنظور طبعاً أبقى اليمن مشكلة أمنية لديهم ومن ثم كُلّف حلفاؤهم بالسعودية هذه المهمة، وهو ما أسهم في استمرار الأزمات اليمنية، وتفاقمها دون حلول ومقاربات حقيقية لحلها، بسبب هذه المقاربة الأمريكية التي أغفلت جذر المشكلة اليمنية، وهي عدم وجود دولة حقيقية لكل اليمنيين، وذهبوا لمقاربة المسألة الأمنية من زاوية التداعيات لا الأسباب والجذور.
هذا المنظور الأمني الصرف لليمن، هو الذي كان واضحاً بالموقف الأمريكي منذ ثورة 11 فبراير/شباط 2011، التي تورطت أمريكا بالتواطؤ ضدها، باعتبار انقلاب جماعة الحوثي مقاربة أمنية تصبّ في صالح رؤيتهم الأمنية، لا مشكلة عدم وجود دولة، لهذا كان إغلاق السفارة الأمريكية، قبل وصول الحوثيين إلى صنعاء بمثابة ضوء أخضر للحوثيين للانقضاض على ثورة 11 فبراير/شباط في انكشاف واضح للموقف الأمريكي.
ما الذي طرأ إذًا؟
اللقاء الأخير بين ليندركينغ وجماعة الحوثي، بعد أن كان متحدث الخارجية الأمريكية نيد برايس قال قبلها بيوم إنه ليس هناك تواصل مباشر مع جماعة الحوثي، ويأتي هذا اللقاء في ظل التوجه الأمريكي المُعلَن لوقف الحرب في اليمن، وإن لم يصدر أي معلومات عن طبيعة هذه اللقاء، وما الذي تطرق إليه الجانبان، إضافةً إلى ذلك، فإن الجانب الأمريكي لم يقدم أي توضيحات بخصوص مقترحاته المفترضة تجاه الأزمة والحرب في اليمن حتى الآن.
ومن الملاحظ أن هذه اللقاءات للمبعوث الأمريكي جاءت في سياق الزيارات المكوكية الاستكشافية ربما، التي يقوم بها ليندركينغ للعواصم الخليجية ولقاء الحكومة اليمنية الشرعية أيضاً، وكل هذا يأتي بعد الانفراجة بالعلاقات بين جماعة الحوثي وإدارة بايدن بعد إزالة اسم الجماعة من قائمة الإرهاب وإن ظلت تضغط بموضوع العقوبات على بعض قاداتها.
ما يهمنا هنا، هو ما طبيعة النقاشات التي تتم في هذه اللقاءات، وما خارطة الطريق أو ما يفترض أنه مقترحات حقيقية للحل في اليمن، بخاصة أنه حتى اللحظة لم يستطع المبعوث الأممي مارتن غريفيث، منذ تعيينه على وضع خارطة طريق واضحة المعالم لما يجب أن يكون عليه الحل والسلام في اليمن، وكل ما قدمه غريفيث هو تجزئة للحل في اليمن وتفتيت ملف التفاوض كمقدمة لتفتيت بنية وتماسك القضية الرئيسية لليمن ككل التي تحدث عنها القرار الأممي 2216 الشهير.
وبالنظر إلى كل هذه الحيثيات يبدو أن الجانب الأمريكي فعلا لا يمتلك رؤية واضحة وحقيقية للسلام في اليمن، بخاصة أن أي سلام في اليمن يتجاوز المرجعيات الحقيقية للحل، سيكون سلاماً غير مكتمل الشروط ومن ثم غير مضمون التطبيق في ظل غياب أي ضمانات حقيقية تجبر الأطراف المتحاربة الشرعية والانقلاب على القبول بهذا السلام، بخاصة وكلا الطرفين لا يمكن أن يقبل بالأخر في ظل تعقيدات المشهد اليمني الداخلي وظهور أطراف جديدة على خارطة المشهد السياسي والعسكري اليمني إلى المجلس الانتقالي الجنوبي وكذلك قوات الساحل الغربي وكلها قوات لا تمتلك هي الأخرى قرارها.
فما الحل إذاً بالنسبة إلى الأمريكان؟
يدرك الأمريكان جيداً أن الملف اليمني ملف سعودي بامتياز ولا يمكنهم مطلقاً تحقيق اختراق في هذا الملف دون أن تكون السعودية في واجهة مشهد الأزمة اليمنية، لهذا يدفع الأمريكان الجانب السعودي للتواصل مع الجانب الحوثي، للبحث في إمكانيات حدوث اختراق في ملف الأزمة، وهو ما تم بالفعل دون إحراز أي تقدم يُذكر، وعلى افتراض موافقة الطرفين الحوثي والسعودي على الجلوس والنقاش، فإن الطرفين لا يمكنهما أن يقرّرا أي شيء في ظل أن الحوثي بلا قرار مستقل عن إيران، إضافةً إلى استحالة فصله عنها.
إضافة إلى أن السعودية هي الأخرى لا تمتلك كامل القدرة والقرار على كل الأطراف اليمنية المناوئة للحوثي، بخاصة أن القضية الجوهرية لليمنيين هي انقلاب طائفي على دولتهم، وأن تضحيات كبيرة قُدمت، وسيصعب إقناع معظم اليمنيين بالقبول بسلام منقوص مع جماعة لا يمكن أن تفكر بالسلام مطلقاً.
تدرك السعودية جيداً وقبل غيرها، أنه يستحيل فصل وسحب جماعة الحوثي من التحالف مع الجانب الإيراني، وأن هذه المحاولة ستفشل في أولى محطاتها، وبالتالي فإن الدفع بالطرف اليمني الشرعي، إلى اجتراح مقاربة عسكرية، بعيد عن الضغط الدولي الذي يمارَس ضد السعودية، بمعنى آخر، تدرك السعودية وإيران أن هذه الحرب في حقيقتها هي حرب يمنية-يمنية بين شرعية معترف بها دولياً وجماعة متمردة ومنقلبة على هذه السلطة الشرعية، وبالتالي سيصعب التقرير نيابة عن اليمنيين، في ظل حالة السخط العامّ في الشارع اليمني من أداء هذه الحكومة الشرعية التي تُتهم بالتفريط في القضية.
إضافةً إلى ذلك، في صفوف الشرعية اليمنية تباينات كبيرة، وهنالك انقسامات كبيرة بخصوص الحرب والسلام وأداء الحكومة اليمنية الشرعية أساساً، بمعنى آخر، فإن الذهاب للسلام مع الحوثي وفقاً لأيّ تصوُّر لم يُطرح حتى الآن، فإنه سيُكتب له الفشل من أول لحظة بالنظر إلى أن الأطراف المعنية هي التي تعرف ماذا تريد بالضبط، وهذه القضية هي ما تُغفِله أمريكا والمجتمع الدولي أو يتغافلون عنه، من خلال الحديث عن أزمة إنسانية يمنية، ولا يقتربون من مكاشفة الجميع عن سبب هذه الأزمة المتمثّل بالانقلاب الذي نفذته جماعة الحوثي التي أسقطت الدولة والجمهورية اليمنية.
إذاً فالحلّ يكمن في الداخل اليمني، ولا يمكن تجاوز هذه الحقيقة مطلقاً، ولو ذهبت أمريكا وإيران إلى فرض سلام على اليمن بالقوة، فإن جزءاً كبيراً جدّاً من اليمنيين لن يقبل سلاماً ينتقص من دولتهم وجمهوريتهم وكرامتهم والتضحيات الكبيرة التي بُذلت طوال السنوات الماضية، وبالتالي فمن المتوقع فشل ذريع للأمريكان في حملتهم لوقف الحرب في اليمن، لأنهم باختصار لا يمتلكون مفاتيح الحل الذي لدى اليمنيين.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.