لطالما تعرضتُ للانتقاد من طرف أصدقائي أو حتى للشماتة بعض الأحيان منهم لأنني ما زلت أتكئ على الطريقة التقليدية في القراءة، بمعنى أنني ما زلت استعين بالكتب الورقية في قراءاتي ومطالعاتي، سواء المتعلق منها بالدراسة أو لغرض الاستمتاع.
طبعا منبع الانتقاد هنا يتأتى من المشقة التي ما زلت أتكبدها في حمل هذه الكتب، إذ لا تخلو حقيبتي من اثنين أو ثلاثة منها يوميّاً، بالإضافة إلى التكلفة المادية المترتبة على ابتياع هذه الكتب، خصوصاً المتعلقة منها بفرعَي العملي المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والشبكات.
في هذه الانتقادات وجاهة بطبيعة الحال، فأنا أبدو كأنني خارج الزمن outdated person. فمع الانتشار السريع للكتب الرقمية، والقدرات التخزينية الهائلة للحواسيب، بات الاعتماد على الكتب الورقية يبدو من عصر آخر.
غير أن ولائي للكتب الورقية لا ينبع فقط من الشعور الدافئ الذي تبعثه في أثناء القراءة، إذ ما زالت تأسرني رائحة الورق خصوصاً تلك التي تفوح من الكتب القديمة. بل ينبع ولائي أيضاً من تقييمات براغماتية تتعلق بالتأثيرات السلبية التي تحملها التطبيقات الرقمية على الصحة البشرية.
إن الاعتماد المفرط الذي أصبح موضة العصر على التطبيقات الرقمية خصوصاً تلك التي توفّرها الأجهزة المحمولة الذكية، بات يحمل في طياته تأثيرات عميقة على البشر، سواء تجاه سلوكياتهم الاجتماعية أو حتى تركيبهم البيولوجي.
وفي الوقت الذي بات فيه من الصعب، حسب الدراسات العلمية، فصل التحول في السلوك الاجتماعي للبشر عن طبيعة تركيبهم البيولوجي، فإنه يمكن القول إن تكنولوجيا الهاتف المحمول متعددة الأغراض والتي تؤثر في كلا المنحيين الاجتماعي والبيولوجي معاً، سيكون لها تأثيرات تحويلية على مسار حياة البشر.
ولكن بالنظر إلى أن المظاهر التي ترافق التغيرات الاجتماعية والبيولوجية لا تظهر نتائجها إلا عبر فترات متراخية من الزمن، فإن الدراسات التي ترصد هذه التغيرات تكون في الغالب تقريبية. فإذا أخذنا العمر التقريبي للجهاز الذكي المحمول الذي يقدَّر بنحو عقد من الزمن، فليس من الصعب الوصول إلى قناعة أن فترة العشر سنوات هذه لا تكفي لرصد تغيرات جوهرية على حياة البشر الاجتماعية والبيولوجية.
مع ذلك ينبغي أن لا ننكر أن كثيراً من التغيرات قد طرأ على مجرى حياتنا منذ أن أطلقت NTT DoCoMo أول شبكة 3G في اليابان في 1 أكتوبر 2001، مِمَّا جعل عقد المؤتمرات عبر الفيديو ومرفقات البريد الإلكتروني الكبيرة ممكنة، أو عندما كشف ستيف جوبز عن أول جهاز هاتف iPhone عام 2007 الذي يُعَدّ البداية الحقيقية لثورة الهواتف الذكية.
كما قلت فإن التأثيرات الحقيقية للأجهزة الرقمية الضوئية على المدى الطويل والمتوسط ما زالت طور الكشف، ولكن ما يثيرني حاليّاً ويجعلني ألتصق أكثر بالكتاب الورقي هو ما أظهره بعض الدراسات عن التأثيرات السلبية لهذه الأجهزة على عقل الإنسان، والتي على الرغم من كونها تقريبية فإنها تنذر بالخطر.
ففي إحدى الدراسات التي قُدّمت للجمعية الإشعاعية لأمريكا الشمالية، وجد الباحثون أن الشباب الذين لديهم ما يسمى بإدمان الإنترنت والهواتف الذكية أظهروا بالفعل اختلالات في كيمياء الدماغ مقارنةً بمجموعة أخرى لا تعاني نسبة الإدمان ذاتها. ووجدت دراسة أخرى ظهرت في مجلة "رابطة أبحاث المستهلك" أن القدرة المعرفية تقلّ كثيراً عندما يكون الهاتف الذكي في متناول اليد، حتى عندما يكون الهاتف في وضع وقف التشغيل.
تأتي هذه الاختلالات من خلال طريقة استجابة أجسادنا لظاهرة التنبيهات المتتالية والمتعددة من الأجهزة الرقمية اللوحية. نحن نعيش في عالَم التنبيهات الرقمية. الاستيقاظ صباحاً يكون على تنبيه جهازك الخلوي، تنبيهات الإيميلات، واهتزاز الأجهزة بفعل الإشعارات الواصلة من الأصدقاء أو زملاء العمل، أو تلك المتعلقة بالأخبار أو الإعجابات.
نعم، يبدو الغرض من كل هذه التنبيهات هو جعل حياتنا أسهل. بالأخير وُجدت التكنولوجيا لراحة الإنسان. ولكنّ لأجسادنا رأياً آخر، فهذه التنبيهات الكثيفة والمستمرة تثير فينا هرمونات التوتُّر وتستحثّها على العمل ويتولد لدينا أحاسيس كما لو أننا سوف نُقلِع بالطائرة أو سوف نبدأ قتالاً، فتتسارع دقات القلب لدينا، ويضيق التنفس، وتنفتح الغدد العرقية وتتقلص عضلاتنا.
يهدف هذا الردّ إلى مساعدة الإنسان على التخلص من الخطر لا الرد على مكالمة هاتفية أو رسالة من أحد الأشخاص. وهنا تكمن الإشكالية، فنحن لا ينبغي أن نعيش هكذا. لم تُخلق أجسادنا لكي تكون تحت حالة استشعار الخطر على مدار الوقت. هذا أمر مرهق لجسد الإنسان وسيكون له تبعات على صحته وعلى حياته الاجتماعية.
على جانب آخر، وهو جانب لا يقلّ خطورة عما ذُكر آنفاً، فقد أثبت بعض الدراسات أن الاعتماد المفرط على الهواتف الذكية وعلى الإنترنت من شأنه أن يسبّب كسلاً للعقل، وقدرة أقلّ على التحليل والاستفادة من المعلومات.
فالقراءة على الأجهزة اللوحية الرقمية من شأنها أن تزيد نسبة الإلهاء. أنت عندما تقرأ من جهازك الخلوي أو حتى من حاسوبك المحمول فإنك ستجد نفسك تلقائيّاً مشتتاً بين القراءة ومتابعة التنبيهات التي تصلك، أو تجد نفسك تقلب الشاشات للاطلاع على آخر المستجدات على صفحة فيسبوك أو تويتر.
هذا الإلهاء سيعمل على تقليل نسبة الاستفادة من المادة المقروءة، هذا من جانب. ومن جانب آخر يزيد الوقت المخصص للقراءة. فنسبة الوقت الذي قد نهدره على متابعة التنبيهات والتقليب بين الصفحات الإلكترونية قد تبلغ 40٪ من الوقت المخصص للمهمَّة التي نقوم بها وهي هنا المطالعة.
نعلم أيضاً أن قراءة معلومات جديدة على هاتفك يمكن أن تكون طريقة فظيعة للتعلُّم. لقد أظهر الباحثون أن الأشخاص الذين يأخذون معلومات معقدة من كتاب، بدلاً من الشاشة، يطوّرون فهماً أعمق، ويساهمون أكثر في التفكير النظري أيضاً.
أخيراً تشير الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة واترلو، إلى أن مستخدمي الهواتف الذكية الذين هم مفكرون حدْسِيُّون -أي الأكثر اعتماداً على مشاعرهم وغرائزهم عند اتخاذ القرارات- يستخدمون محرّك بحث أجهزتهم الذكية بشكل متكرر يفوق اعتمادهم على قدراتهم العقلية الخاصَّة. وبذلك تسمح لهم الهواتف الذكية أن يكونوا أكثر كسلاً مِمَّا كانوا عليه.
في ذات السياق فإن الأشخاص الذين يميلون إلى التفكير التحليلي المنطقي في اتخاذ قراراتهم يميلون إلى استخدام أجهزتهم الذكية لمساعدتهم، فقد أثبتت الدراسات أن الإنسان يحاول قدر الإمكان تجنُّب أن يبذل جهداً في مسائل حل المشكلات. لذلك فإن الأجهزة الذكية التي توفّر إمكانية الاختبارات المنطقية لحل المشكلات من شأنها أن تدفع هذا الصنف من البشر إلى مزيد من الكسل عبر مزيد من الاعتماد على الأجهزة الذكية.
ربما لا يكفي مقال واحد لبسط جميع التأثيرات السلبية التي تسببها الأجهزة الذكية لعقولنا، ولكن هذا القدر يكفي من أجل تأكيد حسن اختياري في الإبقاء على الكتاب الورقي كمصدر أول ورئيسي للقراءة والمطالعة.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.