لم يكن الأمر مصادفة عندما أعلنت بريطانيا التوصل إلى اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي فى ليلة رأس السنة 2020، بعد مفاوضات مضنية وطويلة، وإعلان بريطانيا ودولة غانا الإفريقية فى الليلة ذاتها التوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة، حيث يبلغ التبادل التجاري بين الدولتين أكثر من مليار ومئتي مليون دولار. ويميل الميزان التجاري لمصلحة بريطانيا بنسبة تفوق 60%.
هل يعيد ذلك ما كتبه إليزابيث هيكسلى فى مقاله الذى نشر فى مجلة السياسة الخارجية في أكتوبر/تشرين الأول 1949، تحت عنوان "أهداف بريطانيا فى إفريقيا"، وهو يشير إلى أن بريطانيا تتجه إلى إفريقيا كلما أحست أنها تعاني من تهديد وجودي. حيث قال: إن "اندفاع بريطانيا لاستعمار أجزاء من إفريقيا لتعويض خسارتها من فقدان مستعمراتها الرابحة فى أمريكا وآسيا، وإن إفريقيا بالنسبة إليها هى معركة للوجود والبقاء أكثر من مجرد المصالح الجيواستراتيجية".
نجحت بريطانيا حتى الآن فى عقد اتفاقيات تجارية مع 60 دولة لتعويض خروجها من الاتحاد الأوروبي، نحو 20% منها في إفريقيا.
إن عودة بريطانيا إلى القارة الإفريقية بسبب البحث عن شراكات جديدة لتعويض انسحابها من الاتحاد الأوروبى بعد عقود من الإهمال، تفجر أسئلة نظرية مرتبطة بقدرة بريطانيا على تجاوز التراث الكولونيالى، وإعادة كسب الثقة بعد التشكيك فى دوافعها وصدق نواياها لتطوير القارة على قاعدة الربح المشترك والشراكة العادلة، وإعادة ترميم صورتها المشوهة، كما كرست لها أعمال مشهورة مثل ولتر رودنى عن كيف أسهمت أوروبا في تخلف القارة الإفريقية، وأن ازدهار وتطور أوروبا يتقدم عن قصد بصورة طردية مع تخلف وإفقار إفريقيا.
مع نهاية عام 2020 أكملت بريطانيا استعراض ومراجعة الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للأمن و الدفاع، ومدتها خمس سنوات، والتى تراجع ليس فقط مهددات الأمن القومي، بل تطوير جماع القوة البريطانية الشاملة لحماية حدودها وتوسيع قاعدة نفوذها الدولي، والحفاظ على مظان تفوقها الاستراتيجي، وهي تواجه أكبر تحدياتها الراهنة، وهى تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانخفاض الأداء الاقتصادي بعد موجة الإغلاق في مواجهة الجائحة الصحية لفيروس كوفيد-19.
منذ أن طرح بوريس جونسون عندما كان وزيراً للخارجية عام 2016 ما أسماه "بريطانيا العولمية"، لمواجهة الآثار المترتبة على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، انتظمت معظم سياسات بريطانيا الخارجية للبحث عن فرص وشراكات جديدة، وكذلك زيادة نفوذ وتأثير بريطانيا في المحيط الدولي، وتعويض عضوية الاتحاد الأوروبي بمزيد من الانفتاح وتوسيع قاعدة الشراكة والتعاون السياسي والاقتصادي مع دول العالم.
أي أن تنهض بريطانيا بدور أكبر في النظام العولمي من خلال الانفتاح والتعاطى الدولي والحفاظ على النظام الليبرالي العالمي، رغم جموح مركز المقاومة لإضعاف المؤسسات الدولية وقوة النزعة الشعبوية للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترمب.
ولأداء هذا الدور العولمي حافظت بريطانيا على نسبة الإنفاق العالية على الدفاع 2% من الدخل القومي، مع هامش زيادة فى الميزانية بنسبة 0.5% لمواجهة التضخم ، والالتزام بنسبة 0.7% من الدخل للتنمية الدولية، وكذلك الحفاظ على توازن القوى من خلال العضوية الدائمة في مجلس الأمن وعضوية حلف الناتو.
في اعتقادنا، ظلت إفريقيا القارة المنسية فى الذهن السياسي والاستراتيجي البريطاني منذ نهاية الحرب الباردة 1989 حتى تصويت الشعب البريطانى بالأغلبية البسيطة في الاستفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو/حزيران 2016.
وقد لخص الرئيس الكينى هذه الانشغالات في مشهد استقباله لتريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في جولتها الإفريقية فى أغسطس/آب 2018. حيث قال لها: "شكراً رئيسة الوزراء لتذكرك القارة المنسية، إذ كانت آخر زيارة لرئيسة وزراء بريطانيا العظمى مارغريت تاتشر لنيروبي عام 1987".
يعضد من ذلك حقيقة ساطعة وهي أنه منذ 1989 تقلد نحو 20 وزيراً حقيبة وزير الدولة للشؤون الإفريقية فى الخارجية البريطانية، أى بمعدل وزير كل 18 شهراً. ووفقاً لذلك احتلت إفريقيا المرتبة الرابعة في سلم أولويات واهتمامات السياسة الخارجية البريطانية خلال هذه الفترة.
أصبح الانفتاح على القارة الإفريقية هدفاً رئيسياً للحكومة البريطانية فى إطار تعويض خروجها من عضوية الاتحاد الأوروبي. وأطلقت رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماى لتحقيق هذا الهدف عام 2018 خطة شاملة تحت اسم strategic approach. لتحقيق شراكة اقتصادية وأمنية وسياسية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وأعلنت ماى أن أحد أهداف خطتها هو أن تحتل بريطانيا مرتبة المستثمر الأول فى إفريقيا ضمن دول G7 مجموعة السبع بحلول عام 2022، لتتفوق على الولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الأولى. وأن الحكومة ستجذب استثمارات في حدود 4 بلايين جنيه إسترليني من القطاع الخاص البريطاني حتى عام 2022.
ونجحت لندن فى استضافة منبر التعاون البريطانى الإفريقي في يناير/كانون الثاني 2020 وهو بمثابة مؤتمر قمة، فى محاولة للاتفاق على حزمة خطط وبرامج لترقية وتقوية الشراكة بين بريطانيا وإفريقيا لما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. علماً أن إفريقيا تضم 8 من 15 دولة تعتبر من أسرع الاقتصاديات نمواً فى العالم.
وخصصت وكالة التنمية الدولية البريطانية 370 مليون جنيه إسترليني لعام 2020 لدعم مشروعات التنمية والتعليم وخلق فرص عمل للشباب والمرأة فى إفريقيا. ووقعت بريطانيا اتفاقيات تجارية مع 11 دولة إفريقية تغطى نحو 43% من جملة التبادل التجارى مع إفريقيا. وعجزت بريطانيا وغيرها من الاقتصاديات الأوروبية عن توفير قروض اقتصادية كما فعلت الصين عندما استضافت القمة الصينية الإفريقية عام 2018 وقدمت قروضاً بلغت 60 مليار دولار لإفريقيا.
بعد مضي عامين على إطلاق هذه الاستراتيجية للشراكة مع إفريقيا، صوب البرلمان البريطانى نقداً موضوعياً لخطوات إنقاذها وتحقيقها. وذكرت لجنة العلاقات الخارجية فى البرلمان البريطانى فى تقرير أصدرته في أغسطس/آب 2020، أن الحكومة البريطانية تحتاج إلى إعادة النظر فى استراتيجيتها تجاه إفريقيا لأنها تفتقد وضوح الرؤية وتحديد الأهداف بدقة.
يأتي ذلك رغم زيادة معدل التبادل التجاري مع إفريقيا إلى 7.5% في عام 2020 مقارنة بعام 2019 أى مبلغ 34 بليون جنيه إسترليني، إلا أن نشاط دول منافسة فى القارة فى مجال الاستثمار والتبادل التجاري مثل الصين، والهند، وفرنسا، وتركيا والولايات المتحدة سيخلق تحديات للنهج البريطاني في عودته المتأخرة لإفريقيا. إذ تخلصت إفريقيا باكراً من نهج المشروطية السياسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المثليين وغيرها بفضل القروض الصينية وغيرها.
كما انتقد التقرير ضعف مساهمة بريطانيا في قوات حفظ السلام فى إفريقيا، واهتمامها فقط بالقرن الإفريقي لتأمين حرية التجارة فى البحر الأحمر. ودعا التقرير لمزيد من الاهتمام بالكيانات الاقتصادية الإقليمية مثل السوق المشتركة لغرب إفريقيا (ايكواس)، والمنظمات شبه الإقليمية مثل (إيغاد)، والاستثمار فى موارد القوة الناعمة مثل فض وتسوية النزاعات وبناء القدرات ودعم برنامج الاتحاد الإفريقي مثل (إسكات البنادق) وغيرها.
ونبه التقرير إلى أن التاريخ وحده لا يكفى رغم وجود رابطة دول الكومنولث، وضرورة تجاوز النظر إلى القارة بأنها مركز لاحتياجات العون الإنسانى بسبب الكوارث والنزاعات واختلالات التنمية. هذا إضافة إلى تعميق الشراكة في قضايا محاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة العابرة للحدود والهجرة غير الشرعية.
ونبهت تقارير أخرى إلى أن نمط الاستثمار البريطانى لا يلائم إفريقيا لأنه يعتمد على اقتصاد الخدمات service based economy، علماً بأن معظم الاستثمارات البريطانية الراهنة في إفريقيا تنحصر فى مجال المناجم والتعدين والمواد الخام، وليس تطوير البنية الصناعية كما تفعل الاستثمارات الألمانية فى إفريقيا.
في رأينا فإن الطريق لعودة بريطانيا إلى إفريقيا عن طريق تعزيز الشراكات الاقتصادية والتجارية لن يكون ممهداً لقوة التنافس مع قوى إقليمية ودولية على رأسها الصين التي تقدم قروضاً مجزية دون مشروطية سياسية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
ونجحت الصين في استخدام ما أسماه بعض المحللين "دبلوماسية اللقاح" بتوفير لقاح التطعيم ضد مرض كورونا مجاناً لعدد كبير من الدول الإفريقية.
كما تشتد المنافسة مع دول البركس خاصة روسيا التى تستثمر فى مجال المعادن بواسطة شركات الجيش، وكذلك الدول الأوروبية لا سيما ألمانيا وفرنسا ودول الخليج التي تستثمر في المواني والمناطق الحرة.
لذا فإن تحقيق هدف بريطانيا بأن تحتل المركز الأول ضمن دول مجموعة السبع للاستثمار في إفريقيا بحلول 2022 يبدو هدفاً طموحاً فى ظل منافسة شرسة، وعقود من الإهمال السياسي للقارة خلال السنوات الثلاثين الماضية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.