أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا، يوم الإثنين الفائت، قرارها بخصوص الانتخابات المحلّية في مدينة إسطنبول، إذ قررت قبول طلب حزب العدالة والتنمية إلغاء نتيجة بلدية إسطنبول الكبرى وإعادة الانتخابات فيها، بينما رفضت طلبه إعادة الانتخابات في حي "بويوك تجكمجه" وطلب حزب الحركة القومية إعادتها في حي "مالتبه" في إسطنبول.
مسوغ القرار، الذي أيّده سبعة وعارضه أربعة من أعضاء اللجنة الـ11، هو وجود رؤساء لجان انتخابية وأعضاء فيها من غير الموظفين الحكوميين في مخالفة واضحة لقانون الانتخابات. ولأن عدد المصوتين في الصناديق التي ترأّسها أو شارك بها هؤلاء يتجاوز الفارق بين المتنافسَيْن الرئيسين في انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى الأخيرة، بما يعني احتمال أن يكون ذلك قد أثر على النتيجة، فقد قررت اللجنة الإلغاء والإعادة.
هذا المسوغ وكون القرار جاء من مرجعية العملية الانتخابية وهي اللجنة العليا للانتخابات كهيئة مستقلة فضلاً عن إطارها القانوني والدستوري الواضح، كلها مؤشرات على أن القرار قانوني شكلاً ومضموناً، فضلاً عن أنه لا يغير في النتائج وإنما يدعو لإعادة الاقتراع وترك الحسم مرة أخرى بيد الناخب.
كل ذلك يحيل إلى أن القرار مهني وليس خاضعاً لضغوطات أردوغان أو حزب العدالة والتنمية، وفق الأخير ووفق اللجنة العليا للانتخابات، خصوصاً أن الأخيرة رفضت طلبه المتعلق بحي "بويوك تجكمجه" وطلبات فرعية أخرى. في هذا السياق، يرى العدالة والتنمية أن القرار يتيح الفرصة للناخب ليقول كلمته ويحسم الجدل حول النتيجة بدون شبهة هذه المرة.
كونُ قرار إعادة الانتخابات البلدية جاء من مرجعية العملية الانتخابية وهي اللجنة العليا للانتخابات كهيئة مستقلة فضلاً عن إطارها القانوني والدستوري الواضح كلها مؤشرات على أن القرار قانوني شكلاً ومضموناً.
لكن كل ما سبق لم يَبدُ مقنعاً لعدة أطراف رأت في القرار أبعاداً سياسية لا يمكن أن تخفى، بدءاً من المعارضة مروراً بأطراف دولية وليس انتهاءً بقيادات سابقة في العدالة والتنمية نفسه. لا سيما أن مسوغ القرار لم يكن التزوير والتلاعب والأخطاء -التي عُدِّلت خلال مراحل التظلم السابقة على هذا القرار- وإنما السياق الإداري المذكور أعلاه.
المعارضة، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري، انتقدت بحدة قرار الإعادة موجهة اتهامات لأعضاء اللجنة ووصفت القرار بأنه انتهاك للديمقراطية التركية وتكريس للدكتاتورية. تقدم الشعب الجمهوري بطلب إلغاء نتائج جميع بلديات إسطنبول الفرعية وكذلك انتخابات الرئاسة والبرلمان اللتين أُجريتا في يونيو/حزيران الفائت لنفس الذريعة التي ألغيت بسببها نتيجة إسطنبول، لكنه أكد في المقابل عدم مقاطعة الإعادة واعداً أنصاره بفوز كبير فيها.
جهات أوروبية عديدة انتقدت الخطوة وعدّتها رفضاً من أردوغان والعدالة والتنمية للنتيجة ونتيجة ضغط سياسي مورس على اللجنة العليا للانتخابات، إضافة إلى المطالبة بمراقبة أوروبية ودولية على انتخابات الإعادة. القائمة شملت منسقة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، وعضو لجنة التوسع في المفوضية جوناثان هان، وعضو البرلمان و"مقررة" تركيا فيه كاتي بيري، التي رأت في تغريدة لها القرار "تقويضاً لمصداقية الانتقال الديمقراطي للسلطة في تركيا عبر صناديق الاقتراع".
إذا كانت المعارضة صاحبة مصلحة في رفض القرار والمرجعيات الأوروبية ذات نظرة وصائية تقليدية على تركيا بسبب ملفها التفاوضي للعضوية فإن موقف قيادات سابقة مثل غل وداود أوغلو تبدو مختلفة الدوافع والأثر.
من جهته، شبّه الرئيس السابق عبد الله كل قرار إعادة الانتخابات بقرار المحكمة الدستورية العليا عام 2007 والذي لم يقر حينها انتخاب البرلمان له رئيساً. رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو كذلك رأى في القرار "مخالفات للقانون الدولي والتقاليد الراسخة"، وأنه ينتهك مبدأ أن "الكلمة الأخيرة هي للناخب في صندوق الانتخابات".
وإذا كانت المعارضة صاحبة مصلحة في رفض القرار، والمرجعيات الأوروبية ذات نظرة وصائية تقليدية على تركيا بسبب ملفها التفاوضي للعضوية، فإن موقف قيادات سابقة مثل كل وداود أوغلو تبدو مختلفة الدوافع والأثر. جزء منها يتعلق بالتأكيد بالاختلافات في وجهات النظر بينهم وبين أردوغان والتي تبدّى كثير منها في منشور داود أوغلو الشهير حول الانتخابات، لكن جزءاً منها يبدو حرصاً على صورة تركيا وتجربتها الديمقراطية واستقلالية اللجنة العليا للانتخابات، بحيث لا تشوب أياً منها شائبة تؤثر سلباً على المسار الديمقراطي في البلاد.
سيكون لهذا القرار تداعياته على المشهد السياسي في البلاد بطبيعة الحال، فهو سيديم مرحلة الغموض وانتظار النتائج شهوراً إضافية بما في ذلك الحملات الانتخابية التي ستطيل أمد الاستقطاب السياسي والتراشقات الإعلامية والحزبية. ولعل أولى إرهاصات انعكاسات ذلك على تركيا هو تراجع الليرة مقابل العملات الأجنبية بُعيد إصدار القرار، إذ إن الاقتصاد ورؤوس الأموال ينفران من حالة الغموض وعدم اليقين السياسيَّين.
سيكون لهذا القرار تداعياته على المشهد السياسي في البلاد بطبيعة الحال فهو سيديم مرحلة الغموض وانتظار النتائج شهوراً إضافية بما في ذلك الحملات الانتخابية التي ستطيل أمد الاستقطاب السياسي والتراشقات الإعلامية والحزبية.
العملية الانتخابية تبدو مفتوحة على سيناريوهات عدة وغير مضمونة العواقب بالنسبة للعدالة والتنمية والشعب الجمهوري على حد سواء. ستحاول الأحزاب بطبيعة الحال إقناع الناخبين وخصوصاً المتحفظين أو المقاطعين منهم بالتصويت لمرشحها. وستعمد إلى إرسال رسائل إيجابية خلال الحملة الانتخابية، وكذلك العمل على نسج تحالفات مع الأحزاب الصغيرة التي حاز مرشحوها عشرات الآلاف من الأصوات -تبدو مؤثرة في ظل معادلة الفارق الضئيل بين المرشحين- لكن كل ذلك لن يكون قادراً على حسم النتيجة أو الجزم بتوجهات الناخبين.
في المحصلة، ستكون الكلمة الأخيرة للناخب التركي في مدينة إسطنبول في 23 من يونيو/حزيران المقبل، وسيكون أحد أهم العوامل المؤثرة في صياغة قراره هو تقييمه لأداء الأحزاب بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة ومدى تأييده لقرار الإعادة. لكن يبقى المحك الأهم والأخطر في انتخابات الإعادة هو مرورها بسلام أولاً واعتراف الجميع بنتائجها ثانياً وعدم التشكيك في نزاهتها واستقلالية اللجنة التي تديرها لما لذلك من تأثيرات سلبية مباشرة على التجربة الديمقراطية التركية التي لا تزال فتية.
ولعل الارتدادات الأهم ستكون داخل العدالة والتنمية نفسه وليس فقط في مواجهة المعارضة، خصوصاً إذا ما تكررت نتيجة الجولة الاعتيادية وفاز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، إذ ستكون تلك في الغالب شارة إطلاق الحزب السياسي المرتقب بقيادة ثلة من قيادات الحزب السابقين. ولذا، ومن زوايا عدة، تبدو جولة الإعادة محطة فارقة في تاريخ العدالة والتنمية قد يكون لها ما بعدها، ولذا فقد رأى الكثيرون -وكاتب هذه السطور منهم- أنه كان في غنى عنها، بغض النظر عن مدى مشروعية ما طالب به وفق الدستور وقانونيته وأحقيته.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.