مثّل وجود ترمب على سدّة الحكم في الولايات المتحدة، ومن خلال طاقمه شديد التعصّب لإسرائيل، تلك الفرصة التاريخية التي كان يمكن من خلالها لإسرائيل تحقيق هدفها المتمثل بالبقاء القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وحرمان إيران، وهي أقرب منافسيها من امتلاك تكنولوجيا السلاح النووي، من مزاحمتها على الريادة النووية.
في السابق، حشدت إسرائيل، ومِن خلفها إدارة الرئيس دونالد ترمب، مجموعة من دول المنطقة، وعبر ما كان يُعرف بصفقة القرن، إلى تشكيل نوع مِن التحالف ضدّ إيران ونفوذها في المنطقة. كان هناك اعتقاد كبير أنّ هذا الحلف سيكون بمثابة ناتو النسخة الثانية، وفي الوقت الذي كان فيه الناتو النسخة الأولى موجهاً ضدّ الاتحاد السوفيتي حصراً، فقد كان مهندسو النسخة الثانية مِن النّاتو يطمحون أو يأملون أن يجابه إيران ويحدّ مِن نفوذها الإقليمي ويمنعها مِن التحول إلى قوة نووية.
لقد تفاخرت إسرائيل، وبالأخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بإرهاصات هذا الحلف من خلال تهافت بعض الدول العربية كالإمارات والبحرين والسودان والمملكة المغربية إلى التطبيع مع تل أبيب بأبخس الأثمان، وفي الوقت الذي كان ينتظر حلفاء نتنياهو، أو المؤمنون بسرديّته حول الخطر الوجودي لإيران على إسرائيل، أن يقوم بترجمة هذا التحالف المزعوم إلى برنامج عمل حقيقي لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي أو الحدّ مِن نفوذها، إذا بالرجل يذهب باتجاه آخر، أي إلى استثمار حفلات التطبيع مع بعض العرب في دعم برنامجه الانتخابي، حتى أفاق، وأفاق مَن كان خلفه، على كابوس جديد تمثّل بخسارة ترمب، ومجيء إدارة أمريكية جديدة غير متحمّسة البتّة إلى استثمار مهرجانات التطبيع السابقة في حفلات انتخابية.
فما إنْ ألمحت تل أبيب بمسؤوليتها عن التخريب المتعمّد الذي أصاب المنشأة النووية الإيرانية في نطنز مؤخراً، وهو التخريب الذي تزامن مع بداية محادثات فيينا بين إيران والدول الموقّعة على الاتفاق النووي السابق، حتى وبّخت إدارةُ الرئيس بايدين إسرائيل. فقد أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأنّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أبلغت إسرائيل أنّها "تشعر بعدم الارتياح" جراء التلميحات المتعلقة بمسؤوليتها عن التفجير الذي استهدف منشأة نطنز النووية الإيرانية، وقد جاء في تقرير للقناة 13 الإسرائيلية، أوردت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أجزاء منه، أنّ واشنطن أبلغت إسرائيل بعبارات لا لَبس فيها أنّ "الثرثرة" حول تورّطها في التفجير "يجب أن تتوقف". وأضاف التقرير أنّ إدارة بايدن قالت إنّ هذه "الثرثرة خطيرة وضارّة ومحرجة" للولايات المتحدة، خاصّة وأنّها تأتي بالتزامن مع عقد مباحثات تتعلق بالاتفاق النووي مع إيران.
تشير هذه التوبيخات إلى جديّة واضحة لدى إدارة الرئيس بايدن بالتّعامل مع الملف الإيراني وفق منهجية مختلفة تماماً، وهي منهجية تقوم على ضرورة إحياء الاتفاق النووي أولاً إذا ما كانت الولايات المتحدة تريد التعاطي مع إيران ونفوذها بطريقة أشمل. فلم تنسحب إدارة الرئيس بايدن مِن محادثات فيينا بعدما أعلنت إيران رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة بشكل ينتهك تماماً التزاماتها وفق الاتفاق النووي السابق، وذلك لأنّ واشنطن فهمت هذه الخطوة في سياق التصعيد الإسرائيلي، والتصعيد الذي حرصت على تجاهله.
انعكس هذا التعاطي الإيجابي على المحادثات في فيينا، فقد ألمح نائب وزير الخارجية الإيراني، عبس عراقجي، الذي يترأس الوفد الإيراني، إلى أنّه "قد أصبح الآن بالإمكان البدء بصياغة مسودة الاتفاق"، مشيراً إلى أنّ "هناك فهماً جديداً في فيينا"، وهو ما أكده أيضاً السفير الروسي لدى النمسا ميخائيل أوليانوف حيث ألمح إلى الانطباع العامّ الإيجابي في المحادثات.
لا شكّ أنّ هذه الأخبار ستجد صداها في تل أبيب بطريقة تجعل من نتنياهو يدور حول نفسه. ليس هذا وحسب، فقد ترافقت الأخبار عن الأجواء الإيجابية في فيينا مع تسريبات إخبارية تتحدث عن لقاء أو ربما لقاءات جمعت بين مسؤولين سعوديين رفيعي المستوى مع نظرائهم الإيرانيين في العاصمة العراقية بغداد في التّاسع من الشهر الجاري، وفي الوقت الذي نفت فيه البلدان صحّة هذه الأنباء، إلا أنّه بالعادة لا يكون هنا دخان بلا نار، وكما كان هناك تكذيب في السابق لصحّة الأنباء التي تحدثت عن لقاء جمع بين نتنياهو والأمير محمد بن سلمان، وهو ما تبيّن لاحقا أنّه غير صحيح، فإنّ هذا التكذيب ربما يكون تصديقاً لأنباء لم يحن الوقت للكشف عنها رسمياً.
ما يرجّح كفّة حصول هذا اللقاء أنّ المغازلة السياسية بين الرياض وطهران، وإن كانت على استحياء، كانت واضحة في تصريحات المسؤولين من الجهتين في الأيام القليلة السابقة. ففي حديثه مع قناة "المسيرة" التابعة لجماعة الحوثي، قال حسين دهقان، المستشار العسكري للمرشد الأعلى علي خامنئي، إنّ "السعودية ليست عدواً لنا، لكن إذا قامت بتحركات خبيثة ضمن إطار التحالف العربي الغربي الصهيوني فحينها ستكون نظرتنا إليها مختلفة".
في المقابل أوردت رويترز عن مسؤول سعودي مِن وزارة الخارجية قوله "إنّ المملكة ترى أنّ أي إحياء للاتفاق النووي المبرم في 2015 بين إيران والقوى العالمية يجب أن يكون نقطة انطلاق لمزيد من المناقشات التي تشارك فيها دول المنطقة بهدف توسيع بنود الاتفاق".
لقد كانت السعودية نقطة الارتكاز في استراتيجية كلٍّ مِن ترمب-نتنياهو تجاه المنطقة، واليوم، وفي سعي الرياض إلى إعادة تموضعها في المنطقة بناء على التوجهات الأمريكية لإدارة الرئيس بايدين، فإنّ إسرائيل تجد أن مراهناتها السابقة قد باءت بالفشل، وإذا كانت أقرب حلفائها، وأعني واشنطن، غير متحمسة للتصعيد مع إيران، أو خوض مغامرة عسكرية ضد برنامجها النووي، فإنّ حلفاءها الإقليميين وعلى رأسهم السعودية ستكون أقلّ حماسة لخوض غمار هذه المغامرة. بل على العكس فإنّ السعودية تبحث حالياً عن سبل لإنهاء الحرب في اليمن ضد جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً. وإذا صدقت أنباء اللقاء الثنائي بين الجانبين في بغداد، فإنّ جدول أعمالهما قد ناقش ملفين رئيسيين هما الملف اليمني والملف اللبناني، وكأنّ لسان حالهم يقول "ساعدونا في إنهاء حرب اليمين" وسوف "نساعدكم في إنقاذ لبنان من انهيار اقتصادي وشيك".
يبدو أن خيارات إسرائيل تضيق بشكل كبير، وربما آن الأوان لكي تعترف بحجمها الحقيقي، وأنّ الميزة التي تمتّعت بها إبان عهد ترمب قد ولّت بلا رجعة، وأنّ المنطقة لم تعد كما في السابق، وبأن مشاريع التطبيع لم تكن إلا فقاعات في الهواء.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.