وجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه وسط حرب من نوع مختلف وهو في ذروة أزمته الداخلية، ومنذ عودة نتنياهو لرئاسة الحكومة، تعيش دولة الاحتلال واحدة من أشد أزماتها الداخلية، حيث تتنوع أسباب الأزمة وتصل إلى مستويات عميقة سياسية واجتماعية وفكرية.
وشكَّل وصول التيار الديني القومي المتطرف والتيارات الدينية الصهيونية إلى سدة الحكم في تل أبيب صدمة كبيرة للأوساط العلمانية واليسارية في البيئة السياسية لإسرائيل، إذ يحمل التيار الديني القومي المتطرف برنامجاً سياسياً واجتماعياً واستيطانياً، يُنذر بتحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي الحاكم فيها.
خلافات عميقة
وقد مثَّلت مشاريع "الإصلاحات القضائية" ذروة الخلافات بين التيار الديني القومي من جانب، والتيارات العلمانية والمؤسسة العسكرية والأمنية من جانب آخر.
ونظراً للموقف السلبي التي تتخذه إدارة بايدن من نتنياهو وحكومته المتطرفة، فقد أبدت الإدارة الأمريكية دعمها الكامل للتيارات المناهضة لحكومة نتنياهو وللمؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل، التي تمثل عنوان النفوذ الأمريكي، حيث كانت المؤسسة العسكرية والأمنية قد ألقت بثقل كبير في التحشيد للمظاهرات الواسعة التي استمرت لأشهر ضدّ حكومة نتنياهو.
وشمل هذا التحشيد إضرابات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية نفسها، كما امتنعت قطاعات واسعة من جنود الاحتياط عن الالتحاق بالخدمة، ورفض ضباط في سلاح الجو القيام بمهامهم والدخول في إضرابات متكررة.
ورغم محاولات نتنياهو المتكررة التخفيف من حدة الأزمة الداخلية، فإنه يجد نفسه دائماً بين فكَّي كماشة التيار الديني المتطرف المتحالف معه والضامن لعدم سقوط حكومته وذهابه إلى السجن، وموجة الاحتجاج والإضرابات الواسعة التي تدعمها، بل يمكن القول تديرها واشنطن.
جاءت عملية "طوفان الأقصى" على هذه الحالة من الهشاشة غير المسبوقة في كيان الاحتلال، لتزيد من عمق الأزمة وتعزّز مسارات انعدام الثقة بين أطراف الأزمة، فالفشل الاستخباري والعسكري الكبير الذي مُنيت به المؤسسة العسكرية والأمنية للاحتلال يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أضعف من موقفهم الداخلي بشكل كبير.
وذلك الأمر أدركته الإدارة الأمريكية منذ اللحظة الأولى، وعملت على تولي زمام المبادرة في المحافظة على تماسك الوضع الداخلي لإسرائيل، وعلى إدخال مكونات من المعارضة في حكومة تبدو كأنّها حكومة "وحدة وطنية"، التي ضمت وزير الحرب السابق بيني غانتس، لحكومة نتنياهو، في إشارة لتجاوز الخلاف الداخلي أمام هذا التحدي الوجودي الذي يهدّد دولة الاحتلال.
دلالات وملامح
وحسب المؤشرات، لا يبدو أنّ المسار الأمريكي في شدّ أوصال البيئة السياسية الهشة لدولة الاحتلال قادر على النجاح، فمع تجاوز الأيام الأولى لصدمة "طوفان الأقصى"، بدأت ملامح ونُذُر الخلاف تظهر مجدداً بين أقطاب المشهد السياسي لإسرائيل، وبدأها وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي حمَّل المسؤولية عن هزيمة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول للمؤسسة العسكرية والأمنية.
ويبدو أنّ ذلك استباق مبكر لمشهد الملامات وتحميل المسؤوليات المتبادل وتشكيل لجان التحقيق، الذي ينتظر الجميع، إذ تمثل الهواجس الأخيرة هذه أحد أهم دوافع اتخاذ القرار لدى أطراف مجلس الحرب الإسرائيلي، ورغم محاولات الظهور بمشهد موحَّد، فإنّ دلالات الخلاف لا يمكن تجاوزها أو إخفاؤها.
ومن أقرب مؤشرات الخلاف، ما ظهر مؤخراً بعد المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده كل من نتنياهو ووزير الحرب غالانت وبيني غانتس، إذ فاجئ نتنياهو الجميع بتغريدة على موقع "إكس (X)" يهاجم فيها أجهزة الأمن والاستخبارات، وأشار إلى ما سماها "الادعاءات الكاذبة" بأنه لم يتلقَّ في أي حال وفي أي مرحلة تحذيراً من نيات حماس شن "حرب".
وأضاف نتنياهو: "على العكس من ذلك، قدَّر جميع قادة المنظومة الأمنية، بمن في ذلك رئيس شعبة الاستخبارات ورئيس جهاز الشاباك، أنّ حماس جرى ردعها وتهتم أكثر بالتسوية"، مؤكداً أنّ هذا التقييم قُدم "مرة تلو المرة" إليه وإلى الحكومة حتى وقت قريب من اندلاع المواجهة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وهذه التغريدة التي حذفها نتنياهو بعد انتقادات واسعة طالته، تشكّل المشهد الأبرز للوضع الداخلي الإسرائيلي، الذي يبدو أنّه لن يكون قادراً على الصمود في حالة إظهار التماسك كثيراً، في ظل استعداد الجميع لمرحلة ما بعد المواجهة وتشكيل لجان التحقيق.
تفكك فكري وسياسي
القضية الأخرى التي تعكس حالة الخلاف الداخلي وقد تمثل منعطفاً داخليا جديداً وعنواناً لمعارضة واسعة ضدّ حكومة نتنياهو ومجلس الحرب الذي يقوده، هي قضية الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية.
وتشهد القضية توسعاً في توظيفها للضغط على نتنياهو ودفعه لتقديم تنازلات للمقاومة الفلسطينية مقابل الإفراج عن أسرى الاحتلال، وقد استطاع أهالي الأسرى تشكيل هيئة تنسيقية لإدارة الموقف لديهم وتنظيم مظاهرات بدأت تتسع مع الوقت، وقد بلغت خلال الأيام الأخيرة ذروة متقدمة في الضغط على نتنياهو في أعقاب تصريحات الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، ومن ثَمَّ جرى إعطاء التصريحات دفعة من الجدية والتأثير عبر تصريح لقائد حماس في غزة يحيى السنوار، الذي عبّر عن استعداد حركة حماس لعقد صفقة أسرى شاملة بإطلاق سراح جميع أسرى الاحتلال مقابل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين.
وقد أثارت هذه التصريحات البيئة الداخلية للاحتلال بشكل كبير، إذ شككت بمصداقية نتنياهو وبجدية الحكومة في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وأثارت النقاش حول التمييز بين هويات الأسرى ومَن يشكل أهمية أكثر، أولئك الذين يحملون الجنسيات الغربية والأمريكية بالتحديد أم الأسرى الإسرائيليون الذي لا يملكون سوئ جنسيتهم؟
تشكّل هذه القضايا مجرّد بداية لمسار طويل من الخلافات الداخلية وفقدان القدرة على ضبط النفس لدى قادة الاحتلال في تجنيب الخلافات الفكرية والعرقية والسياسية بينهم. ومع إطالة أمد المعركة وعجز الاحتلال عن تحقيق أهدافه المعلنة من الحملة وتكبده مزيداً من الخسائر في حال شن عملية برية ضد قطاع غزة، وفي ظل حالة الشد والتوتر والاستنفار الكبير في الجبهة الداخلية الضاغط على الاقتصاد والحياة العامة... فإنّ احتمالية أن تشهد البيئة السياسية للاحتلال مزيداً من التفكك والتوترات الداخلية تتصاعد مع الوقت.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ سلوك المقاومة في قطاع غزة خصوصاً حركة حماس، ينبئ عن إدراك عميق ودقيق للمشهد الداخلي للاحتلال على مختلف الصعد السياسية والمجتمعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
إنّ عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول من حيث توقيتها ومفاجأتها الاحتلال وقدرتها العسكرية على إخراج فرقة غزة عن الخدمة وإلحاق هزيمة حاسمة بها، تعزز من فرضية أنّ التوافق الاستخباري والمعرفي للمقاومة في غزة أصبح حقيقة من حقائق الصراع، وأنّ مسار توظيف هذه المعرفة النوعية للبيئة الداخلية للاحتلال سيستمر، وقد يأخذ أشكالاً مختلفة من تطورات المعركة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.