تدخل الحرب على قطاع غزة مرحلة جديدة تصطفّ فيها الدبابات الإسرائيلية على تخوم المدن والمخيمات الفلسطينية في مناطق القطاع، وتتوغّل في البعض منها.
هي مرحلة قد توصف على أنها بداية المعارك الحقيقيّة التي تلتحم فيها المقاومة الفلسطينية مع قوات الاحتلال في حرب شوارعَ ومدنٍ، تجعل جميع سيناريوهات قواعد الاشتباك مطروحة.
قبل الحديث عن الاحتمالات المُقبلة، لا بدَّ من الإشارة إلى اختلاف دلالات النصر عند الطرفين، ومفهوم مقاومة المحتلّ في ظلّ عدم تكافؤ في موازين القوى العسكرية بين الطرفين.
فعادة ما تخوضُ قوى التحرّر من الاستعمار مسيرة نضال ممتدّة تكون فيها الطرفَ الأضعف مادياً، وتعتمد على استنزاف المستعمر وإفقاده الأمن والاستقرار.
تستهدف المقاومة بذلك دحض السردية الاستعمارية، وتُفقدها شرعيتها، بدءاً من جبهة العدوّ الداخلية وانتهاء بالشرعية الدولية، وهذا ما حصل في نجاحات المقاومة التحررية العالمية في فيتنام والجزائر وجنوب إفريقيا وأفغانستان خلال صراعها مع أعتى دول العالم.
وليست المقاومة الفلسطينية استثناءً، بل تجسيدٌ حديثٌ للحروب غير المتكافئة التي خاضتها الشعوب المستعمَرة وانتصرت فيها في آخر المطاف.
حرب المدن
ومعركة "طوفان الأقصى" واحدة من معارك عديدة خاضها الشعب الفلسطيني ومقاومته، ميزَتها الأساسيّة أنها سجّلت من اليوم الأول في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ضربةً موجعةً وغير مسبوقة صدّعت جدار المحتلّ، ولن تمحى تداعياتها من ذاكرته مهما كانت نتائج هذه الجولة.
وحول سيناريوهات المرحلة المُقبلة للمعركة، يبدو جلياً انجرار الاحتلال الإسرائيلي إلى معركة ميدانية طويلة تُكمل مسار السابع من أكتوبر/تشرين الأول بإضعاف الجيش الإسرائيلي وإظهار "قدرته القتالية" على حقيقتها بتكبيده خسائر في قوّاته المدرّعة، لم يسبق أن خسرها جيش نظامي مع حركة مسلحة قوامها العسكري معتمد على الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة المضادة للدروع والآليات.
ومما يعزّز هذا السيناريو أنَّ بنية الفصيل الرئيسي في المقاومة الفلسطينية، أي كتائب القسام، هي بنية دفاعية في تكوينها وخبرتها ونوعية سلاحها، وحتى الخطط والعمليّات الهجومية التي تنفذها كتائب القسّام تندرج فيما يطلق عليه الهجوم الدفاعي.
تشير معطيات الأيّام الأخيرة للمعارك إلى أن مرحلة حرب المدن قد بدأت فعليّاً، مع مؤشرات بارتفاع حصيلة الخسائر في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة مع ارتفاع حصيلة القتلى من الجنود.
ورغم الرقابة العسكريّة الصارمة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على مجريات المعارك الميدانيّة، وما يتكبده جيشه من خسائر حقيقية، فإن هذا النوع من الخسائر يصعب تجاهله وإنكاره لمدة طويلة، وسنجد آثار ذلك على توجّهات صنّاع القرار العسكري والسياسي في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
تراجع الدعم الدوليّ
أمّا السيناريو الثاني الذي تتصاعد فُرصه مع الوقت، ولا يتعارض مع السيناريو الأول، بل قد يكون انعكاساً له، أن تتراجع قُدرة داعمي الاحتلال على المستوى الدولي على تحمّل تبعات جرائمه في حق المدنيين والبنية التحتية المدنيّة، وإمعانه في قتل وتجويع وحصار الفلسطينيين في قطاع غزة.
ويبرّر هذا السيناريو بطبيعة دولة الاحتلال الإسرائيلي المرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع مصالح الغرب، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي انخرطت في هذه المواجهة كما لم تفعل من قبل.
وقد شكَّل ذلك ضغطاً على المقاومة بلا شك، لكنه في الوقت ذاته عقّد الحسابات الأمريكية، إذ باتت تتحمّل تبعات جرائم الاحتلال في البيئة السياسية الداخلية، وتضرّرت صورتها كدولة تدَّعي رعاية الديمقراطية والحريّات وحقوق الإنسان.
يُعزِّز هذا السيناريو الحراكُ الشعبي الدولي منقطع النظير الذي كشف عن أنّه رافضٌ للحرب ومتضامنٌ مع الفلسطينيين.
وقد بدأت تظهر آثار هذا الحراك، بوصفه "فاعلاً سياسياً" ضاغطاً على الحكومات الأوروبية والغربية الداعمة للاحتلال، في الخلافات السياسيّة بين التيارات اليساريّة والتقدمية في الغرب مع الحكومات الحالية.
وبدأت هذه الحكومات وأولاها إدارة بايدن تستشعر أن موقفها الحادّ والمتطرف في دعم الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة تنهش من شعبيّتها، وتضع فرصها الانتخابية المقبلة وتحالفاتها الحالية موضع شكّ وعدم يقين.
حرب إقليمية
أما السيناريو الثالث الذي يبدو أن فرصه تتراجع، ولو أنه يبقى محتملاً، فهو اتساع رقعة المواجهة الحالية وتحوّلها إلى حرب إقليمية واسعة، فالصّراع في فلسطين له امتداداته القومية والدينية والسياسية.
كما أنّ هذه المواجهة لها تداعيات على كل الأطراف الإقليمية؛ سواء المتحالفة مع المقاومة أم تلك التي تطبِّع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وتمنِّي النفس بعقد تحالفات إقليمية معها.
إذ إن صمود المقاومة الفلسطينية في غزة وخروجها بصورة نصر بعد أنْ وجَّهت صفعة قوية للاحتلال الإسرائيلي، سينظر له كإنجاز يشمل كلَّ من يتبنى خيار المقاومة ويساندها، خلافاً للصف الذي اختار المضيّ في مسار التطبيع.
يعدُّ هذا السيناريو الأكثر تعقيداً وتكلفةً أمام جميع الأطراف، ولحساسيّته المفرطة، فإن اختلال حساباته من أي طرف كان ستترتّب عنه تبعات مستقبلية مكلفة.
فالسماح لدولة الاحتلال الإسرائيلي بتدمير غزة وتعميق معاناة أهلها والاستفراد بمقاومتها، سينقل الاحتلال إلى مراحل متقدمة من تصفية القضية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، بل التأثير في البنية الديمغرافية لفلسطينيّي الأراضي المحتلة عام 1948.
وقد يجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه في حالة من الزهوّ والغرور في ظلّ الدعم الأمريكي غير المسبوق إلى حدٍّ يدفعه أن يبادر إلى فتح جبهات أخرى لا يقلّ تهديدها عن تهديد المقاومة في غزة.
ولا تشير محصّلة المعطيات على المستوى الميداني والدولي والإقليمي إلى أن لدولة الاحتلال الإسرائيلي يداً مطلقةً في خوض هذه المعركة لتحقيق الأهداف الكبرى التي سطّرتها قيادة دولة الاحتلال لجُندها تحت تأثير الصدمة الأولى لمعركة "طوفان الأقصى".
إن القضاء على حركة حماس مهمّة مستحيلة بشكل مطلق، نظراً لطبيعة تكوين الحركة وبنيتها وتجذّرها في المجتمع الفلسطيني واتساع جغرافيا تأثيرها وانتشارها.
كما أنّ إعادة احتلال غزة، وبعيداً عن المواقف الدولية الخجولة في رفض ذلك، يشكل تحدياً لا تملك دولة الاحتلال المقدرة عليه ولا على تحمّل تبعاته، إذ إن القطاع الذي خرج منه الاحتلال في صيف 2005 ليس هو قطاع اليوم.
وحجم القتل والجرائم التي ارتكبها الاحتلال في حقِّ الفلسطينيين في غزة أورث ما هو أعمق من مقاومة عسكرية وميدانية، إذ يستحضر المجتمع الفلسطيني في غزة اليوم أدبيات الرفض المجتمعي الثوري والثأر من قتلة الأطفال والنساء.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.