ولطالما كانت أفغانستان، التي تعتبر محط التقاء قوى دولية وإقليمية رئيسية كالصين وروسيا وباكستان والهند وإيران، موضع تنافس بين قوى مختلفة تتنافس من أجل الوصول إلى أراضيها الغنية بالموارد والانفتاح على أسواق مهمة أخرى. اليوم، ومع ذلك، وفي ظل الحسم السريع لطالبان وسيطرتها على مجمل البلاد، يبدو أن اللاعبين الخارجيين الرئيسيين في البلاد يتخذون نهجاً مختلفاً عمَّا كان متوقعاً قبل أشهر.
فحينما وعدت الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها بنهاية أغسطس/آب وضعت الولايات المتحدة، وبمشاركة الدول الإقليمية المعنية، في أفغانستان إطاراً للمرحلة الانتقالية، يقوم على تبني دعم حوار أفغاني داخلي يحول دون أن تحسم طالبان الأمور لصالحها عسكرياً. ورغم ما أبدته طالبان من مرونة في ذلك بتوقيعها اتفاقاً مع الولايات المتحدة ومشاركتها في مفاوضات الدوحة مع الحكومة الأفغانية، فإن إصرارها على ألَّا يكون هذا الإطار هو المسار الوحيد للتعامل مع الواقع قد خلق واقعاً جديداً فرض نفسه على الجميع.
فقد تبنت كل من الصين وروسيا نهج الانتظار والترقب لما ستؤول إليه الأوضاع مع الانسحاب الأمريكي، نظراً لتشككهما الكبير في النوايا الأمريكية في توريطهما في ثقب أفغاني أسود.
ويبدو أن كلا الطرفين فضل أن تكمل الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من منطقة حيوية وحساسة لهما، وأن تكون لهما مقاربة مستقلة عن أي إطار أمريكي لإدارة المشهد في أفغانستان ما بعد الانسحاب. بل أجرت كل من الصين وروسيا حوارات ثنائية مع طالبان، ستظهر المرحلة القادمة أثر هذه الحوارات على دورهما في أفغانستان وعلاقات طالبان مع محيطها.
ولهذا النهج ما يبرره نظراً لتباين المصالح الصينية والروسية والأمريكية في أفغانستان، وما يعنيه هذا البلد لكل منها. كما أن التنافس الدولي بين هذه القوى والولايات المتحدة الأمريكية متعدد الأبعاد والمناطق يضع الوضع في أفغانستان في إطار التنافس وليس التعاون.
لقد نظرت الولايات المتحدة إلى أفغانستان على أنها منطقة اهتمام استراتيجي لعقود من الزمن، لكن أهدافها هناك تغيرت بمرور الوقت. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، شنت الولايات المتحدة حرباً دولية للإطاحة بطالبان، التي قالت واشنطن إنها تؤوي المجموعة المسؤولة عن الهجمات: القاعدة. لكن مصالح الولايات المتحدة في البلاد كانت دائماً محدودة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن خوض حرب بعيدة ينطوي على تحديات لوجستية ضخمة، ولأن الولايات المتحدة أصبحت تواجه تحديات أكثر أهمية ممَّا بدا في ذلك الوقت.
كان أحد الأهداف الجيوسياسية الرئيسية لواشنطن في أفغانستان هو إيجاد موطئ قدم في المنطقة للحد من تقدم القوى المنافسة لها في المنطقة، خاصة روسيا والصين. كما أرادت السيطرة على موارد الطاقة وخلق وجود استراتيجي لها في المنطقة. ولا شك أن الولايات المتحدة تذكرت سوء تقدير السوفييت أثناء حربهم في أفغانستان وهزيمتهم هناك، واعتقدت أنها يمكن أن تتعلم من التجربة، ولكن يبدو أن هذا الأمر بات محل شك كبير.
فقد أجبر عاملان رئيسيان الولايات المتحدة على التراجع الآن. أولاً، حتى مع سيطرة الإدارة المدعومة من الولايات المتحدة على جزء متزايد من أفغانستان منذ 2003، حافظت طالبان على نفوذ كبير في البلاد. تطور هذا النفوذ إلى مقاومة ضد الحكومة التي تدعمها الولايات المتحدة، ولكن حكومة كابل فشلت في الاحتفاظ بمعظم البلاد على الرغم من الموارد الكبيرة التي استثمرتها واشنطن في أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. في الواقع، أصبح من الواضح أن الحفاظ على السيطرة يتطلب وجود القوات الأمريكية على الأرض، الأمر الذي يحمل تكلفة أعلى ممَّا تستحقه الفوائد من وجهة نظر الإدارات الأمريكية منذ أوباما.
ثانياً، وهو الأهم، ترى الولايات المتحدة أن القوى الدولية والإقليمية الأخرى مشغولة جداً في أماكن أخرى بدلاً من التورط في المستنقع الأفغاني. فالصين منشغلة بمشاريع التنمية الاقتصادية الداخلية والخارجية، وتركز على البعد الاقتصادي والتجاري في سياستها الخارجية. ولا ترى روسيا فائدة تذكر في دخول المعركة عسكرياً، ولا تشكل الجهات الخارجية الأخرى، كإيران وباكستان، التي قد يكون لها مصالح في البلاد تهديداً كبيراً للولايات المتحدة أو يمكن احتواؤه في أسوأ الأحوال.
بالإضافة إلى ذلك، تتبنى واشنطن بشكل متزايد استراتيجية تقوم على أن يتحمل حلفاؤها الإقليميون تقاسم عبء تأمين النقاط الساخنة، مثل أفغانستان، بينما توجه انتباهها إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التحدي الأهم بالنسبة لها وهو الصين.
بالنظر إلى قربهما من أفغانستان، من المحتمل أن تكون رؤية الولايات المتحدة أن تضطر الصين وروسيا إلى التعامل مع هذه القضية في المستقبل، وبما أن الولايات المتحدة تعتبر هاتين الدولتين أكبر تهديدات لها، فإن ترك بعض عدم الاستقرار وراءها قد يكون له في الواقع بعض الفوائد.
بالنسبة لروسيا، يعتبر استقرار أفغانستان أمراً بالغ الأهمية لأن البلاد تقع على حدود آسيا الوسطى، وهي منطقة عازلة مهمة إلى الجنوب. فلم تعد روسيا ترى أفغانستان كدولة عازلة. اليوم، تركز روسيا على الحفاظ على الحاجز بين حدودها والتهديدات التي تراها ناشئة في أفغانستان. هذا الحاجز هو آسيا الوسطى. فقد رسمت روسيا اليوم خطاً واضحاً، على الحدود التركمانية والطاجيكية والأوزبكية، لا ترغب بعده في التدخل عسكرياً. وبالتالي، فإن اهتمامها الأساسي في أفغانستان هو كيف يمكن أن يؤثر عدم الاستقرار هناك على بلدان آسيا الوسطى حيث تشكل احتمالية أن تتنشط الجماعات المسلحة في المنطقة بعد انتصار طالبان تهديداً لآسيا الوسطى، وبالتالي لروسيا.
وعلى الرغم من أن الكرملين قد أظهر حرصاً على بذل "كل ما في وسعه" لمنع المزيد من تصعيد الصراع في أفغانستان، بما في ذلك استخدام قاعدته العسكرية ذات الرقم 201 في طاجيكستان، فإنه كان متردداً في التدخل وتجنب ذلك.
فلا يبدو أن الكرملين يرغب أن يرى التاريخ يعيد نفسه. كما أن بوتين لا يريد القيام بمغامرات تهدد وضعه السياسي قبل الانتخابات في الخريف القادم. وبدلاً عن ذلك، اتخذت موسكو نهجاً مختلفاً وفضلت أن تتفاوض مباشرة مع طالبان، رغبة منها في الحصول على تطمينات بأن تحركات طالبان ستقتصر على الأراضي الأفغانية.
بالنسبة للصين، تتمثل مصلحة بكين الرئيسية في تأمين المكاسب الاقتصادية من خلال استخدام موقع أفغانستان كحلقة وصل إقليمية إما في مبادرة "الحزام والطريق" وإما في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان. فمنذ عام 2007، بدأت الصين تبحث عن طرق لاستخراج الثروة المعدنية الهائلة لأفغانستان، الأمر الذي يتطلب الأمن والبنية التحتية والمواصلات. لا شيء من هذا يمكن أن يحدث دون أفغانستان مستقرة، لذلك لا تزال الصين تقيم المشهد السياسي في أفغانستان وما يمكن أن تكسبه من خروج الولايات المتحدة.
بشكل عام، يمكن اعتبار الموقف الصيني من انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وسيطرة طالبان عليها معقداً. فعلى المدى القصير، تشعر بكين بالقلق من أن خروج الجيش الأمريكي قد يغرق أفغانستان قريباً في الفوضى، وستكون حتماً ملاذاً للجماعات المسلحة التي قد تهدد مصالح الصين الحيوية في المنطقة وخططها الاقتصادية والتجارية. وعلى المدى الطويل، تخشى بكين من أن الولايات المتحدة، التي تحررت من التزامها العسكري على الأرض في أفغانستان، ستستخدم ذلك لتقويض موقف الصين الإقليمي ومصالحها الرئيسية في المجال الحيوي للصين.
وعليه، ترى القوى العالمية أن واقعاً جديداً آخذ في الظهور في أفغانستان والمنطقة برمتها. ويبدو أن الولايات المتحدة والصين وروسيا وآخرين قد قبلوا حدودهم، وحقيقة أن مستقبل أفغانستان سيحدده الأفغان أنفسهم، وستكون لطالبان أهم كلمة في ذلك.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.