دخل انشغال أوروبا الموحدة بأزمة إمدادات الطاقة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها ذروة جديدة استدعت بحثها في اجتماعين للقمّة الأوروبية خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ابتداءً في قمة غير رسمية في براغ ثم في أخرى رسمية في بروكسيل سعت لتجاوز الخلافات والتوصل إلى صيغة من "الوحدة والتضامن".
برزت قُبيل قمة بروكسيل المنعقدة يومي 20 و21 أكتوبر/تشرين الأول تصدّعات في المواقف إزاء المقترحات المعروضة للنقاش مع تفاقم هواجس الأزمة ودخول فصل الشتاء، بينما يواجه "التضامن الأوروبي" اختباراً على مستوى ضمان الامتثال له في إمدادات الطاقة.
فرغم تبادلات "تضامنية" قائمة بالفعل بين بعض الدول الأعضاء في هذا الشأن، وانطلاق مبادرات ثنائية متفرقة بين بعض بلدان الاتحاد، إلاّ أنّ احتمال اشتداد وطأة هذه الأزمة في ذروة الشتاء قد يعصف بهذا التضامن الذي تعترضه حسابات السوق ونزعة "أنانية الطاقة" التي تُعبِّر عنها بعض المواقف.
وإذ تتواصل الحرب في أوكرانيا بضراوة، فإنّ أبعادها لا تقتصر على الميدان العسكري أو على الاستقطاب الروسي-الغربي وسياسة العقوبات التي تستهدف موسكو، ذلك أنّ تفاعلاتها صارت مرئية بصفة أوضح في العمق الأوروبي، الذي تتصاعد فيه الهواجس الاقتصادية والاجتماعية بينما تتواصل المظاهرات المطلبية وحركة الإضرابات النقابية في بعض البلدان منذ بدء موسم الخريف الحالي.
زيادة على إشكالية أسعار الغاز التي تنادي بعض دول الاتحاد بوضع سقف جماعي لسعره، فإنّ بعض السياسات الحكومية الداخلية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية قد تجرّ تأثيرات غير مرغوبة على شركائها ضمن القارّة الموحّدة.
تأتي من ذلك، مثلاً، انتقادات فرنسية لسياسة الدعم الألماني الداخلي السخيّة الرامية إلى تخفيف أعباء الأزمة على اقتصاد الجمهورية الاتحادية والمستوى المعيشي لسكانها. لا تنهض هذه الانتقادات الفرنسية من فراغ، ذلك أنّ باريس لم تستحسن الأداء الألماني الذي يصعب عليها مجاراته في مؤشِّرات الصادرات ضمن دول اليورو، حتى أنّ ماكرون أفصح عن استيائه من ذلك سنة 2017 خلال حملته للترشُّح لولاية رئاسية أولى.
ثمّ واكبت فرنسا تدخُّل الجمهورية الاتحادية لإسناد قطاعاتها الاقتصادية خلال سنتين من جائحة كورونا بسخاء منقطع النظير، ثم استأنفت برلين مسلك الدعم الاقتصادي الداخلي من جديد لمواجهة المتاعب الاقتصادية القائمة منذ الصيف الأخير بهدف دعم استقرار الاقتصاد وأدائه القوي وإنقاذ الحالة المعيشية عموماً.
من شأن حزمة تخفيف الأعباء الاقتصادية التي أعلنتها الحكومة الألمانية لمواجهة التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة، البالغة 200 مليار يورو، أن تُثير انزعاج دول أوروبية أخرى، خاصة فرنسا، لعجزها عن مجاراة برلين في هذا الدعم الداخلي السخيّ، كما أنّه يرفع مستوى التوقّعات التي تنتظرها الشعوب والقطاعات الاقتصادية من حكوماتها الأوروبية على نحوٍ يُحرجها في مواجهة التحرّكات المطلبية المتصاعدة، علاوة على استمرار تعزيز حظوة ألمانيا بلا هوادة في مؤشرات التنافسية الأوروبية.
من جانب آخر، ترفض ألمانيا ودول أوروبية أخرى، منها الدانمارك والسويد وهولندا وإيرلندا وآيسلندا، توجّهاً أوروبياً تقوده فرنسا لتحديد سقف لسعر الغاز المستخدم لإنتاج الكهرباء على مستوى الاتحاد. ينبع هذا الاختلاف من رغبة بعض الحكومات في كبح جماح الارتفاع القياسي في أسعار الطاقة عبر هذه الآليّة الأوروبية المقترحة، بعد تطبيقها ضمن شبه الجزيرة الأيبيرية، بينما تُعلِّل الحكومات التي ترفض المقترح موقفها بتحفّظ بعضها على تدخّل الدولة في النشاط الاقتصادي وأداء الشركات، أو بتعارض ذلك مع توجّهات ترشيد استهلاك الطاقة للتعامل مع الأزمة، فخفض الأسعار يُضعِف استجابة المواطنين والمنشآت لأولويّات الترشيد المُعلنة.
ثمة تجاذب أوروبي آخر بشأن مقترحات التوصّل إلى آليّة جماعية لاستيراد الغاز بغرض تحسين الموقف التفاوضي الأوروبي في التعامل مع الجهات المصدِّرة للطاقة والحصول على أسعار أفضل، ولا تبدو فرص التوافق بشأنها واعدة، نظراً لتضارب المصالح بين الدول الأعضاء بشأن هذا المقترح.
تقود فرنسا في هذا الشأن الفريق المُطالب بسياسات جماعية أوروبية للتعامل مع أزمة الطاقة والتحديات الاقتصادية المتعاظمة في هذا الموسم، وتحذِّر باريس في الوقت ذاته من انكفاء كلّ دولة على التعامل المنفرد مع هذه المعضلات ذات الأثر الملموس على واقع الاقتصاد والمستويات المعيشية والتفاعلات الشعبية.
لكنّ ألمانيا والدول التي توافقها الرأي تلحظ في المقابل أنّ وضع شروط على مورِّدي الغاز في هذا الظرف صعب التطبيق ولا يُراعي اختلال توازنات الطلب والعرض في السوق العالمية على نحوٍ قد لا يضمن تأمين احتياجات الأوروبيين اللازمة من الغاز بالتالي.
ورغم الاختلافات الواضحة بين مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد، فإنّ المداولات الأوروبية قد تنتهي إلى مقاربات وسيطة لمحاولة التعامل الجماعي مع أزمة الطاقة والسعي إلى التصرّف التضامني عبر إنضاج آليّات معيّنة في هذا الاتجاه خلال الأسابيع المقبلة.
يجري ذلك بينما تشهد عدد من الدول الأوروبية تحرّكات نقابية ومطلبية متصاعدة، بلغت ذروتها في فرنسا وإسبانيا، للمطالبة بزيادة الأجور وتحسين أوضاع العاملين.
بلغ الأمر أن تضطرّ القيادة الفرنسية إلى استعمال حقّها الاستثنائي في إلزام العمل لاحتواء إضرابات عمّال مصافي النفط بعد أزمة الوقود الخانقة واتساع نطاق الإضرابات العمالية التي حرّكت مئات آلاف المتظاهرين في الميادين.
كما ترسم الأزمة السياسية والاقتصادية البريطانية مثالاً جسيماً لما يمكن أن تتدحرج إليه الأوضاع مع ارتفاع معدّلات التضخّم وتفاقُم المديونية العامّة وتعثُّر الخطط الحكومية للسيطرة على الموقف.
تُكثِّف الحكومات الأوروبية مساعيها في مواجهة تحدِّيات الموسم الاقتصادية والاجتماعية، التي ترتبط أساساً بأمن الطاقة وأسعارها وبمعدّلات التضخّم المتصاعدة، لكنّها لا تجد ما يعينها على ذلك من سلوك بعض حلفائها في الجبهة الغربية.
فبينما تُسابِق حكومات أوروبية الزمن لأجل تأمين إمدادات الغاز البديلة عن التدفّقات الروسية، يفرض عليها شركاء غربيون، تحديداً من الولايات المتحدة والنرويج، وهي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، أسعاراً مُضاعفة إلى مستويات قياسية لهذه السلعة الحيوية التي يشتدّ الطلب عليها.
باحَت برلين وباريس بالشكوى من أسعار الغاز النرويجية والأمريكية التي قفزت إلى أضعاف معدّلها الاعتيادي، كما ورد على لسان وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك مطلع أكتوبر/تشرين الأول، ثم أعقبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المنوال ذاته.
يشهد الأوروبيون معضلة تنافر بين مقتضيات الاصطفاف التحالفي الغربي في مواجهة روسيا، الذي استعمل سلاح العقوبات والتخلِّي الجزئي عن إمدادات الطاقة الروسية ضمناً من جانب، وتعبير شركات الغاز الأمريكية والنرويجية، من جانب آخر، عن نزعة رأسمالية جامحة تستغلّ تصاعد الطلب الأوروبي والعالمي عليه في القفز بأسعاره إلى مستويات قياسية ذات عواقب جسيمة على الاقتصادات الأوروبية المتضرِّرة من الأزمة.
لا تسري على النرويج والولايات المتحدة التزامات "التضامن الأوروبي" بطبيعة الحال، لكنّ أوسلو وواشنطن شريكان أطلسيّان لأوروبا بالأحرى، وقد حرّكت المغالاة في الأسعار انتقادات من مستويات أوروبية رسمية، كما منحت حججاً أوفر لمناهضي الاصطفاف الأوروبي، الأطلسي في ظلال حرب أوكراني، ولهؤلاء أصوات تتصاعد وتحرّكات جماهيرية تتوسّع وإن حُسِبوا غالباً على الهامش السياسي والحالة الشعبوية. يُحاجج معارضو الاصطفاف خلف الولايات المتحدة بأنّ أوروبا عاقبت ذاتها بإقدامها على فرض حزم عقوبات متعاقبة على روسيا ارتدّت بتأثير عكسي على القارّة التي تخضع للإرادة الأمريكية على حساب مصالحها المؤكّدة، حسب رأيهم.
ما زالت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا تحت السيطرة على أي حال، ويبدو أنّ خبرة الحكومات والشعوب في التعامل مع الأزمات قد تطوّرت خلال موسم كورونا المديد، لكنّ ذلك لا يضمن إبحاراً آمناً إن اشتدّت عاصفة الأزمة الجديدة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.