في ستينيات القرن الماضي احتوى الكتاب الذي أصدره صامويل هنتنجتون "النظام السياسي في المجتمعات المتحولة"تنظيراً هاماً لما يراه كثيرون ازدواجية في معايير النظم الديمقراطية الليبرالية في موقفها من الانقلابات العسكرية بدول العالم الثالث.
الكتاب قدم حلاً براغماتياً لأزمة عدم الاستقرار السياسي للمجتمعات التي تنتقل من صيغها التقليدية إلى صيغ حداثية، ودافع بقوة عن دور العسكريين في الإبقاء على انتظام هذه المجتمعات والدفع بالتنمية قدماً في ظل عملية الانتقال هذه.
هنتنجتون أرجع ذلك إلى تماسك المؤسسة العسكرية وقدرتها على الحفاظ على الأمن واحتكار استخدام "العنف الشرعي"، وألمح إلى إمكانية التضحية بالقيم المحورية في المنظومة الليبرالية مثل الحرية أو المشاركة السياسية كثمن لازم للاستقرار.
حتى فيما يخص العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي تصاحب الانقلابات العسكرية عادة، رأى هنتنجتون أنه في أغلب الانقلابات العسكرية يكون عدد الضحايا محدوداً إذا قورن بالضحايا الذين يمكن أن ينتجوا عن صراعات أهلية أو دينية نتيجة عدم استقرار هذه المجتمعات.
وعلى الرغم من أن طرح صامويل هنتنجتون المثير للجدل كان تالياً أو متزامناً، وليس سابقاً، على موقف الحكومات الغربية التي كانت خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية متورطة في دعم بل الإعداد للانقلابات العسكرية في العديد من الدول حديثة الاستقلال في إفريقيا وآسيا، إلا أنه جعل هذه الممارسات المخالفة للقيم الليبرالية والتي كانت هذه الحكومات تتبرأ منها ظاهرياً "خياراً أخلاقياً" تحكمه ضرورات الواقع وتدعمه الدراسات الأكاديمية.
ولكن يلاحظ كذلك أن تصور هنتنجتون للحكم العسكري في هذه المجتمعات هو أشبه بالمرحلة الانتقالية المؤقتة، التي رأى أنها ستنتهي تلقائياً بعد أن تستطيع هذه المجتمعات السياسية خلال فترة الاستقرار التي تنشأ في ظل الحكم العسكري أن تقيم مؤسساتها المدنية الفعالة، فالدور الذي يتوقعه هنتنجتون للعسكريين في هذه الحالات هو دور "القابلة" التي تشرف على ميلاد نظام جديد.
والآن بعد أكثر من نصف قرن ظهر عوار هذا المنطق المقلوب، فالعديد من الحكومات الغربية ما تزال تمارس نفس النفاق والمعايير المزدوجة تجاه شعوب المنطقة حتى هذه اللحظة بدعم الانقلابات العسكرية، بل –وللعجب– تحت نفس الذرائع، وهي دعم الاستقرار، وأن المجتمعات الشرق أوسطية تفتقر إلى المؤسسات والقيم المدنية التي تجعلها مؤهلة للديمقراطية، وأن ضحايا الانقلابات من الممكن أن يكونوا أقل ممَّا قد ينتج من الصراعات الأهلية في هذه المجتمعات.
فما الذي جرى خطأ خلال هذه العقود ممَّا لم يتوقعه أو تجاهله طرح هنتنجتون؟!
أولا إن الادعاء بأن سياسات الحكومات الغربية تجاه النظم السياسية في الإقليم يحكمها التفكير الموضوعي فيما يجلب الاستقرار لهذه النظم خلال فترات تحولها هو ادعاء مضلل.
فكما أثبتت الخبرة التاريخية منذ منتصف القرن العشرين أن الذي يحكم سياسات هذه الدول هي مصالحها في الإقليم والمتمثلة في تأمين مصادر الطاقة، وحماية أمن إسرائيل، ومنع قيام أي نظام معادٍ لها أيديولوجياً.
فطوال الحرب الباردة دعمت العديد من الحكومات الغربية أو دبرت انقلابات عسكرية ضد النظم الوطنية الاشتراكية، كالانقلاب على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953.
ومنذ التسعينيات أصبحت الحركات الإسلامية السياسية هي الخصم الأيديولوجي الذي تسعى هذه النظم "الليبرالية" لمواجهته، ولذلك رعت فرنسا انقلاب الجيش الجزائري ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1991، والذي لم ينتج استقراراً، بل تسبب في "عشرية دموية" راح ضحيتها نحو سبعين ألفاً من الجزائريين على أقل تقدير.
أما ثانياً فإن العسكريين في هذه المجتمعات المتحولة لم يكونوا أمينين في القيام بدورهم الانتقالي والتمهيد لميلاد نظام مدني مستقر، بل في أغلب الجمهوريات بالإقليم قامت المؤسسات العسكرية بالهيمنة على الحياة السياسية بشكل أعاق قيام مؤسسات مدنية فاعلة ومستقرة، وظلت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ضامرة ومنهكة من وطأة استبداد الأجهزة الأمنية وتغولها.
بل بدأت هذه الحالة الاستثنائية تصبح هي القاعدة، وأصبحت مقولات مثل "الجيش عمود الخيمة"، وأن "بلادنا لا يستطيع أن يحكمها إلا رجل عسكري" يتم تداولها كمسلمات ضمن عملية تلقين أيديولوجي مستمرة. حتى حين تخلت المؤسسة العسكرية عن صيغ الحكم المباشرة في بعض الحالات لتنتقل إلى صيغة "Ruling but not governing" كما وصفها الأكاديمي الأمريكي ستيفين كوك، عادت هذه المؤسسة لتطيح بواجهاتها المدنية وتحكم بشكل أكثر مباشرة بعد ثورات الربيع العربي.
نتيجة للعاملين السابقين، ظلت الظروف التي ذكر هنتنجتون أنها وضعٌ مؤقت مستمرة عبر خمسة عقود في دول عدة وتتمثل بمجتمعات تفتقر إلى مؤسسات سياسية مدنية فاعلة ومستقرة لتبرز فيها المؤسسات العسكرية الطرف الأقوى والأجدر بالدعم، ودول ليبرالية ديمقراطية تحكمها نظرتها الضيقة لمصالحها، استثمرت طويلاً في علاقتها بالمؤسسات العسكرية عبر برامج التسليح ومشاريع التدريب، بحيث أصبحت ترى أن العسكريين هم الطرف الأوثق في هذه الدول، ولذلك حين يقومون بانقلاب ضد سلطة مدنية تتخذ هذه الدول موقفاً داعماً، وتبرر برغماتيتها بإكراهات الواقع وغياب البدائل.
في ضوء ذلك، شكلت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا صيف 2016 إحراجاً لموقف العديد من الحكومات الغربية، فمن جهة كان موقف الشعب التركي بمؤسساته المختلفة بما فيها الأحزاب السياسية المعارضة حاسماً في رفض الانقلاب والتصدي له، بما قطع الطريق على هذه الدول من استخدام ذريعة عدم قبول أو ملاءمة الديمقراطية لشعوب المنطقة، ومن جهة أخرى، كان الموقف الفاتر لهذه الحكومات، والتي تلكأت في إعلان رفضها للانقلاب، وتحفظت في إعلان دعمها للحكومة المنتخبة كاشفاً لغلبة حساباتها المصلحية والأيديولوجية على قيمها السياسية المعلنة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.