ازدادت حدّة المنافسة مؤخراً بين كل من تركيا وفرنسا حول عددٍ من القضايا الإقليمية والدولية، ورغم بعض المحاولات لتقليل حدّة التوتر بين الجانبَين العضوَين في حلف شمال الأطلسي، فإنّ المشاعر الشعبية المعادية للوجود الفرنسي في دول غرب إفريقيا، مع تصاعد التأثير الإيجابي التركي في مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا، أدّيا إلى توتر فرنسي متزايد، نتيجة ما تراه خَصماً من نفوذها في المناطق الممتدة من ليبيا والجزائر، مروراً بمنطقة الساحل الإفريقي ووصولاً إلى غرب القارة السمراء.
معارضة الوجود الفرنسي
ورغم أنّ الصراع يبدو متمحوراً حول القوّة والثروة، فإنّ جانباً جوهرياً منه يتعلق بسياسات الهوية ومساوئ الإرث الاستعماري الفرنسي، الذي بات يواجَه بمعارضات متزايدة على المستويَين الشعبي والحكومي في غرب القارة السمراء.
أجبرت الإدانات المتزايدة للدّور الفرنسي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، على سحب باريس كثيراً من قواتها العسكرية من القارة السمراء، فبعد أن كانت تسيطر على نصف إفريقيا عقب مؤتمر برلين 1885م الذي قسّم القارة إلى مستعمرات تبلغ مساحتها 3 ملايين ميل مربع، إذ وصلت إلى ذروة نفوذها في منتصف القرن المنصرم بمائة قاعدة عسكرية في إفريقيا، فإنّها اليوم تمتلك فقط 7 قواعد عسكرية، كما قطع كثير من الدول الإفريقية علاقاتها بفرنسا نتيجة ما وصفتها بـ"السياسات الاستعلائية والأهداف الاستغلالية" لباريس.
وبعد سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في دول غرب إفريقيا، فإنّ باريس أخفقت في معظم أهدافها المعلنة في مجال مكافحة الإرهاب، بل ازدادت أعداد الجماعات المسلحة ورقعة انتشارها، خصوصاً تلك الناقمة على الوجود العسكري الفرنسي. كما تظاهر السكان المحليون ضد الوجود العسكري الفرنسي وانسحبت دول عدّة من ائتلاف الساحل العسكرية المخصّصة لمواجهة الإرهاب، كما ظهرت أجيال جديدة من الشباب الأفارقة ناقمةً على سياسات فرنسا الاستعمارية، بالإضافة إلى رفض باريس باستعلاء الاعتذار عن أخطائها السابقة وجرائمها ومجازرها بحق الدول التي احتلّتها.
نشاط تركي
وعلى الجانب الآخر، وفي الوقت الذي اتهم فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تركيا بالسعي "إلى تعزيز المشاعر المعادية لفرنسا في إفريقيا"، فإنّ أنقرة باتت في السنوات الأخيرة تمثل نموذجاً تعديلياً للنظام الدولي، وعلى رأسه نظام مجلس الأمن، يعمل على إنصاف الدول الفقيرة والمهمّشة.
وفي الواقع تعمل تركيا على جوانب مهمّة، ترتكز على البناء والتنمية والإرث الحضاري المشترك والمصالح المتبادَلة، وتضيف بُعداً أخلاقياً لسياساتها الخارجية، ببرامج تنموية وتعليمية للشباب الأفارقة، وبعقد شراكات ندِّية وليست استعلائية مع الدول الإفريقية، كما تقدّم حزم مساعدات تسهم في تعزيز التنمية، لا سيّما في المجالات الأكثر تأثيراً، مثل الطاقة والأمن والإعمار.
ومع النشاط الدبلوماسي المحموم في القارة السمراء، برعاية عدد من الفعاليات والزيارات المتبادلة، والمشاركة في المنصات الإفريقية بصورة مراقب، وافتتاح 42 سفارة وقنصلية في إفريقيا، فإنّ تركيا باتت تمثل قوة صاعدة في إفريقيا ذات قوة ناعمة ربّما بصورة أكثر من تلك التي يمثلها كلٌّ من الصين وروسيا، بالنظر إلى البُعد الثقافي للوجود التركي بشقّيه التاريخي والديني.
كما عقدت تركيا شراكات مع كل من ليبيا والجزائر وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا، في مجالات مختلفة تتراوح ما بين الأمن والطاقة وتطوير البنية التحتية، وهي الدول الممتدة من البحر المتوسط إلى منطقة الساحل وصولاً إلى خليج غينيا غرب إفريقيا.
وباتت أنقرة قِبلة للقادة الأفارقة، لا سيّما من تلك الدول الساخطة على باريس أو الساقطة من الفلك الفرنسي، في الوقت الذي أجرى فيه الرئيس أردوغان جولات في غرب القارة العام الماضي، ورعى القمة التركية-الإفريقية التي شارك فيها 17 زعيماً إفريقياً و102 وزير، بما يمثل ذروة نجاح الدبلوماسية التركية في جهودها للشراكة مع إفريقيا.
وعلى المستوى الاقتصادي فإنّ تركيا ضخّت 70 مليار دولار في إفريقيا في صورة مشاريع ينفّذها رجال أعمال أتراك، وفّرت 100 ألف وظيفة، في حين أسهمت الخطوط الجوية التركية في تقريب المسافات بين أنحاء القارة برحلات من إسطنبول إلى 58 وجهة في 38 دولة إفريقية.
ورغم استمرار النفوذ الثقافي الفرنسي في الدول الفرانكفونية، إضافةً إلى وجود الكثير من الأفارقة الناطقين بالفرنسية في فرنسا، فإنّ الهوية الدينية الإسلامية لمعظم مواطني منطقتي الساحل وغرب إفريقيا تقدم بُعداً إضافياً لتركيا في حروب الهوية، متقدمةً على كلٍّ من فرنسا والصين وروسيا.
كما أن الإرث الاستعماري الفرنسي وربط باريس وجدانياً باستنزاف ثروات الأمم الإفريقية لا يزال يؤرق الأفارقة، بالنظر إلى سيطرة فرنسا على مصادر اليورانيوم والذهب، وربط بعض العملات الإفريقية بالاقتصاد الفرنسي، والاستحواذ على الاحتياطيات البنكية لتلك الدول، ويعزز يوماً بعد يوم مأساة الأرض الغنية والشعب الفقير.
قوة ناعمة
وعلى المستوى التنموي، فتحت وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) 25 مكتباً لها في إفريقيا؛ لتنفيذ مختلف المشروعات.
كل تلك النشاطات باتت تمثل تهديداً للنفوذ الفرنسي في إفريقيا، الذي أصبح في تراجع، تاركاً وراءه فراغات تملؤها القوى الدولية، ومنها تركيا.
وتعزز القوة الناعمة التركية مؤسسات ثقافية، مثل معهد "يونس إمرة"، الذي يعمل على تعليم اللغة التركية، بالإضافة إلى وقف المعارف والهلال الأحمر التركي، الذَين يعملان جنباً إلى جنب مع وكالة "تيكا" ودورها في بناء وترميم المساجد في إفريقيا. حيث شيّدت أكبر مسجد في غرب إفريقيا في أكرا، عاصمة غانا، على الطراز العثماني، وشارك في افتتاحه الرئيسان التركي والغاني، ممولاً من رئاسة الشؤون الدينية التركية ووقف الديانة التركي وبدعم من المحسنين الأتراك، ليكون مركزاً للقوة الناعمة التركية في غرب إفريقيا.
وتقدّم أنقرة منحاً دراسية لنحو 4500 طالب إفريقي في مستويات التعليم الجامعي المختلفة، باستثمار في القوة البشرية الإفريقية، إلى جانب تعليم وتدريب الدبلوماسيين الأفارقة ضمن "البرنامج التعليمي الدولي للدبلوماسيين الشباب".
الجانب العسكري
ومثّل الانسحاب الفرنسي من مالي ذروة انهيار المنظومة الأمنية الفرنسية في منطقة غرب إفريقيا والساحل، بعد عشر سنوات من التدخل العسكري الفرنسي تحت غطاء مكافحة الإرهاب، إذ أنتج ذلك مشاعر مناوئة للوجود الفرنسي ومظاهرات في مالي وتشاد والنيجر، وغياب التأييد الشعبي والرسمي، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون مبرراً فشل عملياته العسكرية؛ لعدم وجود حاضنة اجتماعية مواتية، إذ صرح قائلاً: "النصر على الإرهاب غير ممكن إذا لم يكن مدعوماً من الدولة نفسها".
وفي الوقت الذي انسحبت فيه مالي من ائتلاف الساحل، وأعلن رئيس النيجر "موت" هذا التحالف، عقدت تركيا اتفاقية عسكرية مع النيجر في يوليو/تموز 2020 لإنشاء قاعدة عسكرية استراتيجية برّية وجوية، مع تدريب جيش النيجر وتزويده بأحدث الأسلحة، وتدريب قوات الأمن، وهو ما يؤكّد وجود تلك الحاضنة الشعبية للوجود التركي التي افتقر إليها الجيش الفرنسي وقيادته السياسية.
وقد تميّز التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بدعم الأنظمة الاستبدادية، وعقْد اتفاقات تعاون مع الجيوش الإفريقية لا تخضع للمساءلة أو الشفافية، مما أدّى إلى مزيدٍ من الفساد داخل تلك الجيوش وانتشار الانقلابات العسكرية المدعومة فرنسياً، بدلاً من نشر قيم الجمهورية الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة.
وعلى الجانب الآخر، كانت دول غرب إفريقيا من أهم مشتري السلاح التركي عام 2022، حيث زادت بوركينا فاسو وارداتها من السلاح من 92 ألف دولار إلى 8 ملايين دولار، وكذلك تشاد من 249 ألف دولار إلى 14.6 مليون دولار، والمغرب من 505 آلاف دولار إلى 82.8 مليون دولار، كما صدّرت ما قيمته 63.9 مليون دولار إلى تونس بزيادة 645%.
يشار إلى أن تركيا وقّعت اتفاقيات عسكرية أمنية مع كثير من دول المنطقة، كالسنغال ومالي وموريتانيا وتشاد والنيجر، تضمنت تعاوناً في مجالات التسليح والتدريب ونقل الخبرات الأمنية.
وقد مثلت الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة مرحلة مفصلية في عمر الدولة التركية؛ حيث توقع منافسو تركيا تغيير القيادة السياسية ومن ثم تغيير السياسة الخارجية التركية نحو سياسات أكثر اتباعاً للغرب وأكثر تلافياً للتنافس معه، إلا أنّ فوز أردوغان بفترة رئاسية جديدة من المتوقَع أنّه سيمثل تعزيزاً للنهج التركي في سياساته الخارجية، لا سيما في القارة السمراء، وامتداداً لسياساته التعديلية للنظام الدولي، القائمة على التعاون المشترك وذات البُعد الأخلاقي، والتي تهدف إلى حشد الأقران والدول الصديقة نحو هدف الوصول إلى عالمٍ أكثر عدلاً.
ويوماً بعد يوم تثبت التطورات الطارئة على بنية النظام الدولي أنّ هناك مزيداً من الحرية للدول متوسطة القوة والصاعدة لاتخاذ سياسات أكثر حسماً وتعزيزاً لمصالحها على الساحة الدولية، دون النظر إلى إملاءات القوى التقليدية، العظمى منها والإقليمية، بما يفتح الباب أمام مزيدٍ من التعاون بين تركيا والقوى الإقليمية الأخرى، نحو التعاون لتعزيز الوجود في المناطق الواعدة مثل القارة الإفريقية، من أجل تحقيق الأهداف ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها أن تصبح بديلاً للقوى التقليدية في مجالات الطاقة والسلاح والبنية التحتية، وهو النهج الذي قادته تركيا في إفريقيا.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.