ولا أدل على ذلك من خطاب الوزيرين خلال مؤتمرهما الصحافي الذي عقداه بعيد لقائها المغلق، فنظرة سريعة على هذا الخطاب، ومن خلال القيام بتحليل بسيط، يتبين كم حجم تغييب الفلسطينيين وقضيتهم عن أولويات برامج التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أشار في معرض حديثه في أثناء المؤتمر بشكل عاجل ومقتضب إلى ضرورة الالتزام بحل الدولتين كإطار سياسي لحل الصراع مع إسرائيل، مؤكداً على ضرورة أن تلتزم إسرائيل بحدود الخامس من يونيو/حزيران 1967. أما الوزير الإسرائيلي فلم يذكر قضية الصراع مع الفلسطينيين ألبتة. وهذا التغييب لذكر الفلسطينيين وقضيتهم مقصود في حد ذاته، فإسرائيل تحاول تسويق علاقاتها مع الدول العربية بعيداً عن قضية الصراع مع الفلسطينيين على اعتبار أن هذا الصراع هو شأن إسرائيلي داخلي، ولا دخل للعرب أو غيرهم به.
ولتأكيد هذا المسار، تحاول إسرائيل العمل على تعزيز جوانب أخرى من العلاقات مع الجانب العربي بعيداً عن الجانب السياسي البحت الذي قد يتسلل منه الحديث عن الفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم المسلوبة، ولذلك تحرص تل أبيب على عقد اتفاقيات جانبية تتعلق بمجالات اقتصادية، وثقافية، وتكنولوجية، وسياحية، من باب تعزيز مفهوم السلام الاقتصادي أو السلام الثقافي كبديل عن السلام السياسي الذي أثبتت الأعوام السابقة بأنه غير ذي جدوى وفق اعتقادهم، فالعلاقات التي تشهد تطوراً بين إسرائيل والمغرب على حد قول لابيد سوف "تجلب فوائد للسياحة والاقتصاد وللتجارة والتبادل الثقافي وللصداقة والتعاون".
وعلى الرغم من أن الدافع لإعادة تطبيع العلاقة بين الرباط وتل أبيب كان سياسياً بحتاً، حيث استطاعت الرباط انتزاع اعتراف أمريكي إبان ولاية الرئيس السابق دونالد ترمب بسيادتها على الصحراء الغربية، وذلك على خلاف الطابع الاقتصادي البحت الذي صبغ اتفاقيات التطبيع الأخرى كالإسرائيلية الإماراتية، والإسرائيلية البحرينية، فإن حرص الجانبين المغربي والإسرائيلي على إظهار الجوانب الثقافية والاقتصادية لم يكن خافياً منذ البداية، فقد بدأت الخطوط الجوية الإسرائيلية تسيير رحلات مباشرة إلى الرباط اعتباراً من الشهر الفائت، في حين شدد وزير الخارجية المغربي بوريطة على أن علاقة المغرب بإسرائيل لا تشبه أي علاقة أخرى، فالتراث اليهودي المغربي، على حد قوله، "يعتبر مكوناً من مكونات الهوية المغربية"، هذا بالرغم من أن عدد اليهود المغاربة الذين ما زالوا يعيشون على الأراضي المغربية لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسمة.
تحاول الدولة المغربية من خلال إبراز البعد الهوياتي في علاقتها مع إسرائيل نظراً للمكون اليهودي في نسيجها المجتمعي، أو من خلال محاولتها الحفاظ على مسافة واحد من الفرقاء من خلال استقبالها لوفد من حركة حماس سابقاً، أن تشق لنفسها نموذجاً مغايراً للتطبيع مع إسرائيل. لذلك حرصت الرباط منذ البداية على رفضها إطلاق اسم التطبيع لتوصيف علاقتها مع إسرائيل، ولكن "إعادة استئناف" العلاقة على فرض أن العلاقة بين البلدين كانت موجودة سابقاً، وإنما قطعت على إثر الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة بحق الفلسطينيين إبان انتفاضة الأقصى التي اندلعت في عام 2000.
إن لكل دولة الحق في اختيار نموذجها الذي تريد في نسج علاقتها مع أي دولة كانت، ولكن يجب أن لا يعمينا هذا عن رؤية أصل المشكلة وهو أنه أياً كان شكل النموذج فإنه سيكون مع دولة احتلال قامت بالأساس على أرض عربية، وعلى ممتلكات عربية بعد أن أجبرت ملاكها العرب على مغادرتها بالقوة.

وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى كثير نبشٍ لكي تظهر ناصعة للعيان. فإسرائيل لا تكف عن تأكيد هذه الحقيقة مراراً وتكراراً عبر ممارستها القمعية والعنصرية بحق الفلسطينيين. فما زالت غزة تنزف جراء تعرضها للعدوان الإسرائيلي مؤخراً، بينما أهالي حي الشيخ جراح مهددون بالطرد والإخلاء بالقوة في أي وقت، هذا فضلاً عن مشاريع الاستيطان الإسرائيلية التي ما زالت تقضم من الأراضي الفلسطينية المزمع قيام دولة عليها، ناهيك عن حالات القتل بدم بارد والتي تجري على "المحاسيم" أي نقاط التفتيش الأمنية التي تقيمها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مداخل البلدات الفلسطينية، والتي تحوّل حياة الفلسطينيين إلى جحيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
إن سياسة مسك العصا من الوسط لا تستقيم مع الحالة الإسرائيلية، فلا يمكن المساواة بين الضحية والجلاد، فالقضية في رمتها لا تدور حول حقوق اقتصادية يريدها الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، وإنما تدور حول أراضٍ محتلة، ولاجئين مهجرين، وحقوق مدنية مسلوبة، وحقوق سياسية مغتصبة، ولذلك فإن العلاقات مع إسرائيل ليست تطبيعاً، وليست استئنافاً لعلاقات سابقة، وإنما هي تلميع لاحتلال يريد تحت وطأة واقع اقتصادي وسياسي تمر به الدول العربية أن يمرر أجندته السياسية، والتي تتعلق بالأساس بتغييب القضية الفلسطينية وطمسها من الأجندة السياسية مع هذه الدول سواء أكانت عربية أم غير عربية.
ولا يعتبر هذه المشروع جديداً، فقد بدأ قبل عشرات السنوات، وتحديداً من اتفاق أوسلو الذي أبرم موقعوه من الفلسطينيين بحق قضيتهم عندما اعترفوا بحق إسرائيل بالوجود، مروراً بمشروع الشرق الأوسط الكبير إبان إدارة جورج بوش الأب، وانتهاء بمشروع الشرق الأوسط الجديد إبان إدارة جورج بوش الابن والذي أعطاه دونالد ترمب زخماً جديداً، وهي المشاريع التي تسعى إلى دمج إسرائيل في محيطها كدولة طبيعية قادرة على نسج علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع جوارها الإقليمي، وتتمتع بوضعية استثنائية نظراً للدعم الغربي والأمريكي على وجه الخصوص.
ولا شك أن إسرائيل اليوم سوف تتمتع بمنافع جيوسياسية جمة من خلال إعادة علاقتها مع المغرب، فبعيداً عن المنافع الاقتصادية، التي تُتخذ كثيراً من الأوقات كذريعة، فإن علاقة إسرائيل مع دول أوسطية ـ أطلسية ـ إفريقية كالمغرب سوف تعزز من مكانة تل أبيب في القارة الإفريقية خصوصاً وقد تمتعت مؤخراً بالحصول على وضعية مراقب في اتحادها، كما سوف تعزز من استفادة إسرائيل من المشاريع الأوروبية تجاه دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ومبادرة "الاتحاد من أجل المتوسط" ليست منا ببعيد.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.