ولكن من زاوية أخرى فإن سعر الفائدة يُعتبر أحد أهمّ العوامل التي ترفع إجمالي تكاليف الإنتاج، وبالتالي السعر النهائي للسلعة عند وصولها إلى أيادي المستهلكين.
وتشير النظريات الاقتصادية إلى العلاقة العكسية بين سعر الفائدة والاستثمار، فرفع الدولة سعر الفائدة لجذب المدخرات الأجنبية نحو الاقتصاد الوطني يثبط الاستثمارات الحقيقية لحساب الودائع البنكية، وهو ما تراه السياسات النقدية شفطاً لنسبة من السيولة التي تضغط على أسعار السلع مسببة التضخم.
وبالفعل استخدم العديد من الاقتصادات العربية سعر الفائدة لجذب كميات كبيرة من النقد الأجنبي اللاهث وراء أسعار الفائدة المرتفعة، حتى تبادلت كل من مصر والأرجنتين المراكز المتقدمة على العالم في أسعار الفائدة المرتفعة من خلال التوسع في إصدار أدوات الدين المحلية، وهي الحالة التي خلقت اقتصادات شديدة الهشاشة، رهينة لأي هزة اقتصادية ولو عابرة، تتسبب في هروب تلك الأموال مخلّفة وراءها نقصاً كارثياً في العملات الأجنبية يدفع نحو المسارعة بمزيد من الرفع لسعر الفائدة والاقتراض الخارجي لملء الفراغ في النقد الأجنبي ومنع الانخفاضات الحادة في قيمة العملة الوطنية.
وعملياً هُرّبت الأموال الساخنة نحو الملاذات الآمنة في الولايات المتحدة الأمريكية والبنوك الغربية الكبرى مع بداية أزمة كورونا، وتدريجياً واجهت الدول العربية الأزمة من خلال المسارعة نحو الاقتراض من الخارج ورفع معدلات الفائدة المحلية، ورغم النجاح الظاهري في وقف نزيف قيم العملات الوطنية فإن خدمة القروض الخارجية بأقساطها وفوائدها أرهقت الموازنات العامة للدول، وكبلت يد الحكومات في توفير خدمات عامة لائقة للمواطنين، علاوة على تعميق التبعية للخارج سواء على مستوى القرار السياسي أو الاقتصادي.
ويتكرر نفس السيناريو حالياً بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا الذي تزامن مع نهاية حقبة التسهيل النقدي الذي اتبعته البنوك المركزية الكبرى حول العالم لتوفير السيولة لمواجهة تداعيات انتشار كورونا على النشاط الاقتصادي، إذ بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة مؤكداً أنه سيرفعها ست مرات أخرى قادمة، وهو الأمر الذي دفع الأموال الساخنة نحو الهرب مرة أخرى، ولم تجد الدول العربية إلا نفس الحلول المعلَّبة التي لم تبتعد عن رفع سعر الفائدة والبحث عن مصادر للاقتراض الخارجي.
وفي إطار تبريرها لرفع معدل الفائدة لم تنفِ البنوك المركزية العربية سياساتها باستجداء بقاء الأموال الساخنة، بالإضافة إلى مواجهتها للتضخُّم الذي ازداد اشتعالاً عقب التعافي العالمي من الفيروس وتسارع المنافسة الدولية لتعويض خسائر التوقف والإغلاقات مما ضغط بشدة علي المتاح من السلع، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار حول العالم بشكل كبير، واستمرّ المنحنى الصاعد للأسعار مع أزمات سلاسل الإمداد والتوريد وقفزات أسعار النفط والغاز وفشل محاولات الضغط على دول "أوبك بلس" لزيادة الإنتاج.
وزاد اندلاع الحرب على أوكرانيا الأسعار اشتعالاً، لا سيما مع بروز أزمة الإمدادات الغذائية وبالأخصّ الحبوب التي تنتج روسيا وأوكرانيا النسب الكبرى من صادراتها على المستوى العالمي، لتنكشف الحقيقة جليةً بأن الدول العربية لم تتعلم من أخطائها المتكررة وأنها أهملت قطاعاتها الإنتاجية الزراعية والصناعية واستسهلت الأموال الساخنة والقروض الخارجية كعماد للعملة المحلية وكسند لعجز الموازنة العامة والميزان التجاري.
وتشير النظرة السريعة إلى أن الدول العربية تستورد 65% من احتياجاتها الغذائية من الخارج، ومع تهديد الحرب للإمداد برزت التقارير الدولية التي تنذر بتناقص المتاح لهذه الدول من الحبوب والزيوت والأعلاف والأسمدة، ولو توافرت الأموال اللازمة للشراء في ظل مضاربات عالمية على السعر، ولنا أن نتخيل حال دول مثل لبنان واليمن وسوريا والصومال كيف يمكن أن توفر احتياجات مواطنيها، وربما برز شبح المجاعات جلياً، بخاصة مع استمرار الحرب.
وفي ظل تلك المعطيات يجب تأكيد أن رفع سعر الفائدة لن يحلّ أزمة التضخم، فموجة التضخم الحالية ليست من جانب الطلب ولا بسبب زيادة القوة الشرائية والاستهلاكية المحلية، وبالتالي فإن سعر الفائدة المرتفع لن يسحب جزءاً من السيولة نحو البنوك ليعيد التوازن بين جانبَي العرض والطلب فتنخفض الأسعار، فالحقيقة أن موجة التضخم الحالية مستوردة من الخارج مع ارتفاع أسعار السلع والبترول، وسيزيد سعر الفائدة تفاقُم الأزمة حيث التورط في موجة من الركود التضخمي، وحينئذ لن تُجدي السياسات النقدية نفعاً سواء باستخدام سعر الفائدة أو بخفض عرض النقود.
عموماً أصبح اتجاه الدول العربية نحو الاقتراض ورفع سعر الفائدة إجبارياً بعد تضييعها فرص تحقيق نسب معتبرة من الاكتفاء الذاتي، وفي ظلّ ما تعانيه فعلياً من نسب فقر وبطالة مرتفعة فإنه بات من الواجب على الحكومات بداية أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية تجاه مواطنيها بتوفير احتياجاتهم من السلع الرئيسة وبالكميات والأسعار المناسبة.
كما يجب عليها كذلك المسارعة نحو تخطيط قطاعاتها الإنتاجية، وبالأخصّ القطاع الزراعي الذي يحتاج إلى سياسات زراعية كلية تنطلق من الموارد الأرضية والمائية المتاحة، وتعيد إحياء المراكز البحثية ودور الإرشاد والتثقيف الزراعي لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه الموارد، والبحث في كيفية مواجهة التحديات التي تواجه محدودية بعض الموارد، لا سيما المياه منها على وجه الخصوص.
كما يجب العمل في هذا الإطار على إحياء التكامل الزراعي العربي، فالموارد الأرضية والمائية الهائلة في السودان فقط تكفي لتحقيق اكتفاء ذاتي لكل الدول العربية، هذا بخلاف العديد من الدول العربية الأخرى التي تمتلك إمكانات زراعية كبيرة، وقد أثبتت المحن العالمية المختلفة أن الاكتفاء الذاتي من الغذاء جزء لا يتجزأ من الأمن القومي ومن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول، فهل تسارع الدول العربية نحو تحقيقه، أم كما جرت العادة ستثبت في مقاعد المتفرجين؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.