تابعنا
بدأ المشهد بخيام معدودة في حرم جامعة كولومبيا، امتدّت سريعاً إلى جامعات النخبة وغيرها في الولايات المتحدة.

وفي غضون أيام معدودات توسعت مخيمات الاعتصام وظهرت في نقاط متكاثرة حول العالم، تتقدّمها أبرز الأكاديميات في دول غربية متهَمة بالضلوع في دعم الاحتلال وحرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني.

أدّت محاولة خنق الظاهرة في مهدها إلى تحفيزها وتأجيجها، ولم يفلح القمع والاعتقال والترهيب في محاصرة ظاهرة تعبِّر عن نضوج حركة عالمية تسجِّل حضورها في الفضاءات الجامعية وخارجها.

كان واضحاً منذ بداية ظاهرة الاعتصامات أنّ الجامعات الأمريكية تأثيرها المؤكد على الصعيد العالمي، فهي تخطف الأنظار وتتصدّر المشهد الأكاديمي حول العالم، وهي مجتمع مُصغّر بالنظر إلى تنوّع الأصول الإثنية للملتحقين بها دراسةً وبحثاً وتدريساً. وللأفكار والاتجاهات والمبادرات التي تتفاعل في هذه الفضاءات الجامعية المرموقة تأثيراتها النافذة في الأوساط الطلابية والشبابية والثقافية حول العالم.

تطوّر تراكمي دؤوب

لم ينبثق هذا المشهد العالمي من فراغ؛ فهو تطوّر تراكمي لحالة جماهيرية تأجّجت عالمياً في ظلال حرب الإبادة في غزة. نصب طلبة جامعة كولومبيا خيامهم بعد قرابة مئتي يوم من المظاهرات والفعاليات الجماهيرية العارمة في أنحاء العالم. ولا مفاجأة في ظهور مخيم الاعتصام الأوّل في جامعة كولومبيا ذات تقاليد الاحتجاج الراسخة، التي كانت مع جامعات النخبة الأمريكية مسرحاً لنشاطات طلابية دؤوبة.

نضجت على مدار شهور الحرب بيئة تفاعُل عالمية تتصدر فيها المبادرات وتتناسخ المضامين، إذ تواصلت الفعاليات الجماهيرية منذ اندلاع حرب الإبادة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأخذت تتشارك خبرات التظاهر واللافتات المرفوعة وهتافات الميدان، حتى صارت تتميّز بوحدة المواقف والخطابات والمطالب والشعارات والرموز إلى حد كبير. لا عجب بالتالي أن يلتقط طلبة العالم مبادرة أقرانهم في جامعات النخبة الأمريكية فباشرت تجمّعات الطلبة في عشرات الجامعات العريقة في قارات عدّة محاكاة مخيم الاعتصام في فضاءاتهم الجامعية أينما كانت.

عبّرت الاعتصامات الجامعية عن نضوج طور جديد من التضامن العالمي مع فلسطين يلتحم مع نضال شعبها وتضحياته. إنها بالأحرى حالة "ما بعد التضامن"، التي تتّسم بجرأة الخطاب وشجاعة المبادرة والانخراط مع كفاح الشعب الفلسطيني من أجل التحرّر من الاحتلال، ولا تكتفي بالتعاطف التقليدي مع "شعب آخر". من مظاهر الطوْر الجديد تداعي الجماهير إلى تقمّص الرموز الثقافية والنضالية الفلسطينية والانتماء المعنوي إلى هذا الشعب، وتعميم هذه التعبيرات بأشكال متعدِّدة في الميادين والوسائط والشبكات.

صدمة وعي وتطوّرات مفاهيمية

تواصلت حرب غزة بلا هوادة شهراً بعد شهر، ودفعت بفيض هائل من المشاهد الاستثنائية والمؤشرات المذهلة التي أحدثت صدمة وعي لدى أوساط واسعة حول العالم. تحظى الجماهير من أجيال عدّة بفرصة غير مسبوقة من الاحتكاك المعرفي والمعايشة الوجدانية لما يجري في فلسطين، عبر مسالك مستقلة عن الصناعة الإعلامية التقليدية، فتكتشف وحشية الاحتلال وضلوع داعميه في اقتراف فظائع في غفلة من شعوبهم التي تُجيَّر ضرائبها لتمويل الاحتلال والإبادة بأموال الضرائب من حيث لم تلحظ. ثمّ إنّ استعصاء إرادة الشعب الفلسطيني على الانكسار طوال هذه المدة القياسية من الحرب نفخ الروح في مفاهيم "الانتفاضة" و"المقاومة" و"الثورة" و"التحرير" التي تتصدّر خطاب الطور الجماهيري الجديد حول العالم؛ بصفة غير معهودة منذ زمن حركات التحرر من الاستعمار.

لهذا التطوّر المفاهيمي مقدِّماته التي نضجت في السنوات الماضية، من خلال تنامي الوعي بقضية فلسطين وفظاعة احتلالها، وتراكم خبرات حركات العدالة الإثنية، وانفضاض أوساط يهودية عن الآيديولوجيا الصهيونية وازدياد اتجاه مراجعة التاريخ وفتح ملفات الاستعمار وما بعده، علاوة على نمو خبرات العمل المدني والجماهيري في زمن التواصل والتشبيك والعولمة.

أزاح هذا التحوّل النوعي خطابات غيّبت الفلسطيني المناضل وأبرزت الفلسطيني الضحية، كأنّ بعض نسخ "التضامن" الغربية السابقة أرادت فلسطينيّها المفضّل ذبيحاً لا يغضب أو مُكبّلاً لا ينتفض من أجل وجوده وحقوقه وكرامته، كي يتجرّد من وصمة "العنف"، على أمل أن يبقى مادّة تعاطُف مثالية تذمّ قاتله دون ردع المقتلة المتواصلة. إنّ ارتفاع سقوف الخطاب الجماهيري العالمي المناصر لفلسطين نتيجة منطقية لانكشاف واقع احتلالها وجاهزيته لإبادة شعبها وتجديد نكبته وانقشاع أوهام الرهان على تسويات سياسية معه. صار الهتاف لحرية فلسطين "من النهر إلى البحر" من أبرز الشعارات المعولمة، وبرزت مقولات مركّزة تؤكد أنّ الحل الوحيد هو الانتفاضة والثورة على الاحتلال؛ مكلّلة بقبضة التحدِّي على اللافتات والرايات.

يتجلّى التطوّر النوعي في مفاهيم مركزية تتبنّاها هذه الحركة العالمية التي ترى أنّ الانخراط في نضال الشعب الفلسطيني يبدأ من أي مكان على وجه الأرض، ببساطة عبر تصعيد التحرّكات وتكثيف الضغوط.

أدركت هذه الجماهير، مثلاً، أنّ احتلال فلسطين يحظى بشبكات دعم وإسناد تخترق جامعات النخبة أيضاً وتتسبّب في استدامة الاحتلال وتمكينه من الإجهاز على أرواح الفلسطينيين وقضم فرص الحياة المتبقية لهم. تتصاعد نتيجة ذلك مطالب نزع الاستثمارات من الاحتلال الإسرائيلي والشركات المتعاقدة معه، علاوة على المقاطعة الشاملة، وتتوجّه هذه المطالب الصارمة إلى الجامعات دون الاقتصار عليها، وثمة إنجازات أوّلية تتحقّق. يتوجّه بعض الفعاليات الجماهيرية إلى محاولة تعطيل مسالك دعم الاحتلال والإبادة، مثلاً باقتحام مصانع أسلحة وذخائر أو محاصرتها لكبح تصديرها إلى الجيش الإسرائيلي، أو بمقاطعة كلمات يلقيها سياسيون وشخصيات عامّة في محافل متعددة بهتافات "دماء على أياديكم" أو "أنت مسؤول عن قتل الأطفال والنساء في غزة".

الاحتلال خسر الجولة

خسر الاحتلال جماهير العالم إلى الأبد، ولن يستردّ "معركة العقول والقلوب" مستقبلاً. فلا سبيل إلى حجب واقع الاحتلال بعد انكشافه أو إعادة ترميم زيفه الدعائي بعد انقشاعه، ولا فرصة لسلب امتياز الوعي والإفاقة من رؤوس أجيال الحاضر، حتى مع ضمان مساندة أوساط عنصرية ومتعصبة لدولة الاحتلال وجرائم حربها.

يبدو مأزق الاحتلال جسيماً بسبب الانشغال الجماهيري المكثّف والمديد بما يجري في فلسطين على خلفية حرب الإبادة المتواصلة، التي تدفع بمشاهد وتقارير لا تنقطع عن الأهوال التي يقترفها الجيش الإسرائيلي والتصريحات الفاشية والمواقف الصادمة التي تصدر عن كبار المسؤولين الإسرائيليين. حرّك هذا الانشغال غير المسبوق في منسوبه وكثافته واستمراره مراجعات عميقة حسمت وجهة أوساط واسعة من الجمهور مع فلسطين وضد الاحتلال، وليس مفاجئاً أن تنخرط أوساط يهودية في الصفوف الأولى من التحركات المُناصِرة للشعب الفلسطيني. ومن معضلات الموقف الإسرائيلي أنّ مواصلة التشغيب على اعتصامات الجامعات يؤجّجها أكثر فأكثر ويعزِّز الاكتراث الجماهيري بالتعرّف على قضية فلسطين على نحو يزيد من خسائر دعاية الاحتلال في العاجل والآجل.

خسر الاحتلال الجولة لأنّها منازلة غير متكافئة على جبهة الشعوب والجماهير. فمُناصِرو فلسطين يرتكزون إلى قيم إنسانية واضحة ومبادئ أساسية محددة هي الحرية والحقوق والعدالة ورفض الظلم والاضطهاد والإبادة، فيما تلجأ سردية الاحتلال إلى مطاردة الطلبة والطالبات، والإمعان في وصم ذوي العقول والضمائر، ومحاولة إسكاتهم وترهيبهم، دون الكفّ عن تبرير الاحتلال والإبادة الجماعية وإنكار الحقائق المشهودة والوقائع المرئية.

لا عجب أن أثارت خيام الاعتصام الأولى في جامعات النخبة هواجس وجودية لدى قيادة احتلال تخشى العزلة والذمّ وقطع شرايين الإمداد عنها، فسارع بنيامين نتنياهو شخصياً إلى إلقاء خطاب متلفز يوم 24 أبريل/نيسان للتحذير من خيام الجامعات الأمريكية بعد أيّام قليلة من نصبها.

لن تغيِّر انتفاضة الجامعات مواقف الانحياز في اليوم التالي، لكنّ داعمي الاحتلال والإبادة يُدركون أنّ انتفاضة الجامعات العارمة رفعت ضريبة نهجهم ونقلت "أزمة غزة" إلى فنائهم الخلفي ووضعت سياساتهم ومواقفهم على مشرحة الجماهير.

أعاد الطور الجماهيري الجديد تعريف فلسطين على أنها قضية تخصّ شعوب العالم وجماهيره، فهي "قضيتنا" أيضاً وليست شأناً خارجياً معزولاً لا يستحقّ الاكتراث. ومن مستجدّات المشهد أن تنخرط أوساط عريضة من نخبة الأجيال الصاعدة في بيئات عدّة ضمن جماهير النضال والتضحية من أجل فلسطين، وأن تتعهّد بالالتزام بهذا الموقف حتى انتزاع حريتها من "النهر إلى البحر".

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي
الأكثر تداولاً