ترى إثيوبيا أن مصادرها المائية تمثل مورداً هاماً لتنميتها الاقتصادية، ولا بد من العمل والاستفادة القصوى منها لإحداث طفرة اقتصادية في البلاد ومكافحة الفقر.
وظل حلم استغلال مصادر المياه، خاصة النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بأكثر من 85% من المياه، حلماً يراود الساسة الإثيوبيين على مر التاريخ، في الوقت الذي ترى فيه مصر أن أي محاولة إثيوبية للاستفادة من مياه النيل ستكون خصماً عليها، مدركة بأن إثيوبيا ظلت على الدوام مدعومة بالولايات المتحدة وإسرائيل.
عام 1964 أجرى مكتب الاستصلاح الأمريكي (US Bureau of Reclamation) دراسة نيابة عن الحكومة الإثيوبية في حوض النيل الأزرق، حددت أربعة مواقع محتملة على الحوض الرئيسي تضمنت سد "المنطقة الحدودية" الذي تغير اسمه فيما بعد ليصبح سد النهضة الكبير.
قامت إثيوبيا بتقديم مقترح مشروع سد النهضة عام 2007، ليتم إدراجه ضمن مشاريع تجارة الطاقة التابعة لمبادرة حوض النيل الشرقي، وذلك إبان عهد الرئيس المصري حسني مبارك.
شاركت الدول الثلاث (إثيوبيا، مصر، السودان) في المرحلة الأولى، وأبدت مصر حماساً كبيراً في هذه المرحلة، حتى إن مدير المشروع كان مصري الجنسية. لكن مع تقدم المشروع أبدت مصر شكوكاً متزايدة، انتهت إلى إعلان وزير الري المصري حينذاك رفضه المشروع، مبرراً ذلك بأنه جزء من مؤامرة على مصر اتخذت من مبادرة حوض النيل ستاراً تختبئ وراءه.
أعقب ذلك اعتراض كل من مصر والسودان على بعض بنود اتفاقية عنتيبي ورفضهما التوقيع عليها، وتجميد عضويتهما في مبادرة حوض النيل عام 2010، ممَّا أدى إلى سحب الدعم الدولي عن المشروع.
أبلغت إثيوبيا رسمياً كلاً من مصر والسودان في يناير/كانون الثاني 2011 عزمها بناء السد، قبل توقيع العقد مع شركة ساليني الإيطالية في أبريل/نيسان من العام نفسه، متزامناً ذلك مع تطورات حدثت في مصر عقب الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، لتبدأ أعمال التشييد عام 2013.
لم تكتف إثيوبيا بذلك، بل إنها عرضت على مصر والسودان المشاركة في تمويل السد بنسبة 20% و30% على التوالي، رفض السودان العرض لعدم توفر التمويل المطلوب، في حين رفضت مصر بسبب عدم اكتمال تقييمها لآثار السد.
رجعت مصر لاحقاً وطالبت بالمساهمة في بناء السد خلال اجتماع لرؤساء الدول في الكويت، لكن إثيوبيا اعتذرت لأن تشييد السد وصل إلى مراحل متقدمة. بعدها دخلت الدول الثلاث في مفاوضات متصلة على مختلف المستويات، أهمها قمة الخرطوم في مارس/آذار 2015 التي خرجت بإعلان المبادئ لسد النهضة الإثيوبي، بهدف تحويل نهر النيل إلى محور للتعاون والإخاء من أجل شعوب الدول الثلاث.
موقف إثيوبيا
يتبلور الموقف الإثيوبي، الذي لا يعترف عملياً بالاتفاقيات التي تحكم وادي النيل الموقعة بواسطة دول استعمارية والتي تحد من قدرة إثيوبيا في إقامة مزيد من السدود على النيل الأزرق، ممَّا سينهي طموحات إثيوبيا الرامية للتحول إلى مركز للطاقة الكهرومائية تبيعها لجيرانها في كل من جيبوتي وإرتريا وكينيا والسودان، وتمرير خط عبر السودان لكل من دولة جنوب السودان ومصر ومنها إلى أوروبا.
فإثيوبيا وهي تسعى لإنشاء مشاريعها لاستغلال مياه النيل الأزرق تؤكد أن هذه المشاريع خاصة بها، ولا تريد أن يكون هنالك كابح أو مقيد لها، رغم إعلانها الدائم بأنها لن تقوم بأي مشروع يتسبب في ضرر لمصر والسودان.
وبدا من الواضح أن المفاوض الإثيوبي بحنكته كان يهدف إلى كسب الوقت، وقفل الطريق أمام أي محاولات لإعاقة أعمال تشييد السد، أو تمويله. كما أنها لا تريد الدخول في التزامات بشأن إدارة السد وتشغيله، كشأن مصر في الانفراد بتشغيل السد العالي وإدارته. لذلك لم يكن مستغربا أن تعلن وزارة الخارجية الإثيوبية بأن "ملء السد بنجاح نصر دبلوماسي عزز مصداقية إثيوبيا على الساحة الدولية".
موقف السودان
تاريخياً كان موقف السودان دوماً يتطابق تقليدياً مع مصر، بيد أن السودان اتخذ موقفاً مغايراً، أعلن أنه طرف أصيل في المفاوضات، له متطلبات أساسية يسعى بقوة لتحقيقها، ومخاوف يجاهد لإزالتها. لكن الله قد حبا السودان بموقع متميز كوسيط جغرافي وثقافي واجتماعي، وهو الوحيد بين الدول الثلاث الذي يتميز بحدود مشتركة وتداخل اجتماعي وثقافي وتاريخي مع الدولتين.
لذلك أدى السودان دوراً إضافياً لتقريب المواقف وإزالة المخاوف وخلق بيئة تفاوضية إيجابية. فلقد أعلن السودان أنه لديه فوائد من وجود السد، بيد أن هذه المصالح لن تكتمل إلا في ظل التوافق.
حتى قبل اكتمال سد النهضة فإن للسودان تجربة حالية متميزة في استيراد الكهرباء من إثيوبيا عبر مشاريع الربط الكهربائي بين البلدين.
كما تلقى السودان وعوداً من الجانب الإثيوبي بتزويده بالكهرباء بسعر تفضيلي. إضافة إلى الكهرباء التي سيتحصل عليها السودان من سد النهضة، فإن هناك جملة من الفوائد الأخرى، تتمثل في تنظيم جريان مياه النيل الأزرق طوال العام، ممَّا يتيح للسودان فرصة الاستفادة من حصته في مياه النيل، مع إمكانية زيادة العروة الزراعية لموسمين بدلاً من موسم واحد مع انتهاء خطر الفيضانات.
إلا أن المفاوض السوداني يسعى للتوصل إلى اتفاق لتكوين آلية تنسيقية حول ملء بحيرة السد حتى لا تتضرر سدوده المنتشرة على النيل الأزرق، إذ إن انخفاض المناسيب سيؤثر على خزاني الروصيرص، وسنار، كما أن عمليات الري ستتأثر في المشاريع الكبرى مثل مشروع الجزيرة. فقد صرح مؤخراً وزير الري السوداني بأنه ليس من حق إثيوبيا أن تملأ خزان سد النهضة دون اتفاق مع مصر والسودان.
موقف مصر
ترى مصر أن رؤية رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ملس زيناوي تأتي في إطار استراتيجية "إثيوبيا القوية"، والرامية إلى قيامها بتصدير الطاقة الكهرومائية. وتتوقع أديس أبابا أن تبيع ما لا يقل عن أربعة آلاف ميجاوات من الكهرباء للشركاء الإقليميين في العقد المقبل.
ولا شك أن هذه الرؤية الإثيوبية يمكن من خلالها تغيير نظرة العالم لإثيوبيا، وتحويلها إلى دولة إقليمية رائدة ذات موارد حيوية بالنسبة للمنطقة بأسرها، خاصة أن إثيوبيا أصبحت واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً.
يسعى المفاوض المصري بعد أن تم بناء السد إلى التوصل إلى اتفاق حول الفترة اللازمة لملء السد، وذلك لتقليل الأضرار الناجمة عن احتجاز كميات كبيرة من الماء في بحيرة السد، وحتى لا يتأثر المخزون ببحيرة السد العالي، من خلال تكوين تنسيقية لديها صفة الإلزام، تشارك فيها الدول الثلاث لإدارة السد، خاصة عند مواسم الجفاف وقلة الأمطار.
حيث إنه توجد آثار مباشرة لنقص الوارد من الماء لمصر الناتج عن سد النهضة تتمثل في بوار مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وزيادة تداخل مياه البحر في الدلتا وتملح أراضيها، وانكشاف العديد من مآخذ محطات مياه الشرب والمصانع الواقعة على نهر النيل وفرعيه، وزيادة تلوث مياه النهر والترع والمصارف والبحيرات الشمالية، وتهديد الثروة السمكية والملاحة النهرية.
إن نقص المياه يؤثر بشدة على الإنتاج الزراعي والاقتصاد المصري ككل، والمجتمعات الزراعية المحلية. فعلى المستوى الكلي سيحدث خلل في الميزان التجاري، وزيادة للبطالة بين المزارعين.
ويؤثر على خطط الحكومة للاكتفاء الذاتي من الغذاء، والاستقرار الاجتماعي، وجودة الأراضي الزراعية.
فمصر تعتمد بشكل أساسي على الزراعة في الوقت الحالي يواجه القطاع العديد من التحديات، في مقدمتها ندرة المياه، علماً بأن مصر تقع ضمن قائمة الدول العشر الأولى المهددة بالنقص في المياه.
وتزايدت مخاوف الندرة المائية بسبب التغيرات المناخية والزيادة السكانية، إضافة إلى تناقص الوارد من نهر النيل بسبب سد النهضة، الذي يرفد مصر بنسبة 96% من احتياجاتها المائية.
تقوم اليوم إثيوبيا منفردة بملء بحيرة سد النهضة دون اتفاق مع السودان ومصر، ممَّا سوف ينذر بتداعيات تختلف حدتها لدى البلدين، إلا أنه من الواضح أن الضرر الأكبر سيقع على مصر، سواء في المدى القصير أو الطويل. فلقد بذلت الدبلوماسية المصرية جهداً كبيراً للتوصل إلى اتفاق، إلا أن ذلك لم يجدِ فتيلاً، فغياب الدبلوماسية المصرية عن إفريقيا مكن إثيوبيا من الظفر بالتعاطف الإفريقي، كما أن الأحداث الداخلية التي مرت بها مصر بعد عام 2011 تتكرر اليوم في ظل تحديات الوضع الداخلي ومحاولات التدخل الخارجي كما في ليبيا.
ممَّا جعل الدبلوماسية المصرية تطرق كل الأبواب، فاستعانت بالولايات المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومؤخراً عادت إلى البيت الإفريقي، فتم عقد قمة مصغرة لم تسفر عن إلزام إثيوبيا بإيقاف ملء بحيرة السد أو انخراط الدول الثلاث في آلية تنسيقية ملزمة.
سينذر الوضع بكارثة ما لم يتم التوصل إلى اتفاق تتعاون فيه الدول الثلاث. صحيح أن مصر كانت تخشى من أن سد النهضة سيشجع بقية دول حوض النيل على القيام بمشاريع سدود مماثلة، كما أن تنظيم جريان النهر سيؤدي إلى توسع السودان في الزراعة على مياه النيل الأزرق، وسيمكنه من الاستفادة من حصته السنوية من مياه النيل، بيد أنه قد حان الآوان لإعادة التفكير برؤية جديدة شاملة تخرج منها جميع الأطراف بمكتسبات، ولعل الطريق إلى ذلك الدخول في مشروعات مشتركة يجني ثمارها الجميع.
فسد النهضة تم بناؤه من أجل توليد الكهرباء، ممَّا سيؤدي إلى مرور جميع المياه عبر بوابات السد. وسيمكن كلاً من السودان ومصر من الاستفادة من الكهرباء المنتجة، كما أنه ليس هنالك ما يحول دون قيام مشاريع مشتركة غير مستهلكة للمياه، مثل تطوير واستغلال الثروة السمكية والملاحة وغيرها من المشاريع، مثل هذه المشاريع ستسهم في تعزيز التعاون والتقارب بين الدول الثلاث.
أثبتت التجارب السابقة صعوبة التوافق على أي مشروعات مستهلكة للمياه بسبب إعراض مصر عن المشاركة في هذه المشاريع. آن الأوان للاستفادة من جريان المياه المنظم والأراضي الزراعية المتوفرة والخبرة المصرية في مشاريع الأمن الغذائي لفائدة الدول الثلاث، كبديل للوضع المتأزم الحالي.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.