وفي طور هذه الأحداث يتم طرح عدة أسئلة من قبيل هل نحن مقبلون على مواجهة جديدة يمكن أن تفجر الأوضاع تحديداً مع قطاع غزة؟ وكيف سيكون شكل المعركة في المرحلة المقبلة في حال استمرت الأحداث تحديداً في مدينة القدس؟ وهل بالضرورة أن الأحداث يمكن أن تؤدي إلي الشكل الذي كانت عليه الأحداث في معركة سيف القدس؟
حاول باحثان في معهد الأمن القومي الإسرائيلي وهما كوبي ميخائيل، وأودي ديكل الإجابة عن بعض هذه الأسئلة في دراستهما حول الأحداث الجارية وخلصا إلى أن الأحداث ربما تسير في اتجاهين أولهما موجة محدودة زمنية ولا تتغير على الوضع القائم. وثانيهما اتباع أسلوب ممنهج أحدثته المقاومة الفلسطينية، بهدف توحيد جبهات النضال الفلسطيني في ساحة معركة شاملة.
ومن الجدير بالذكر أن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن ما يحدث ليس عملاً عابراً بل هو موجة من فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل إنجاز رئيسي حققته في معركة سيف القدس، يتحدث عن تعدد ساحات الاشتباك والقدرة على إشغالها في آن واحد.
الإطار العملياتي
يمكن ملاحظة أن المشهد في الأراضي الفلسطينية بدأ يعبر عن هذا التوجه، فجبهة غزة التي تسيطر عليها حماس ولديها الاقتدار العسكري في المبادأة تعلن جهوزيتها العسكرية، والقدس في نفير دائم، وعنفوان الداخل والضفة ازدادت وتيرة التصعيد فيه في الفترة الأخيرة لا سيما جنين، فضلاً عن أراضي الـ48.
كل ذلك يضع الأمور في اتجاهات تعزيز قدرات المقاومة الفلسطينية، وفي تقديري أن التهديد الفعلي للاحتلال هو توحد هذه الجبهات وعدم قدرته على تفكيكها.
وفي هذا الإطار فإن الاحداث تتجه لمسار مهم ربما غير مسبوق في تاريخ المقاومة الفلسطينية. فترابط الجبهات واستمرار العمل وديمومته تعطى أهمية كبيرة في التأثير على وضع الاحتلال. فحالة ملء الفراغ وتعزيز الجبهات وتواصلها تؤدي إلي بناء زخم يمكن أن يسهم في تعزيز جهد المقاومة من خلال استمرارية وديمومة الأحداث وزيادة الكلفة لدى الاحتلال.
وضع الاحتلال ونظرته للأحداث الحالية
بالعودة إلى دراسة معهد الأمن القومي الإسرائيلي فقد بينت طبيعة التوجهات أو المسارات التي ينظر إليها صانع القرار في إسرائيل تجاه الأزمة، إذ تشير عدة معطيات إلى أن الاحتلال لا يرغب في مواجهة واسعة متعددة الجبهات مع المقاومة الفلسطينية لأسباب متعددة.
فحكومة الاحتلال مهددة بالتفكك بعد انسحاب أحد أعضائها خاصة أن رئيس الوزراء "الإسرائيلي" نفتالي بنيت لا يملك سوى سبعة أعضاء في الكنيست، بالإضافة إلي أن بنيامين نتنياهو يريد جر الحكومة إلى المواجهة بهدف إسقاطها، بالإضافة إلي أن البرنامج الإقليمي (بيئة التحالفات) الذي يديره الاحتلال يحتاج إلى هدوء، وهو ما ينسجم مع الرغبة الأمريكية والإقليمية خاصة وأن الوضع الدولي متوتر لا سيما في ظل الأزمة الأوكرانية.
موقف المقاومة الفلسطينية ورؤيتها من الأحداث
ساحة الفعل الفلسطينية هي الأكثر استفادة من التصعيد إذا ما استمرت موجة العمليات في الداخل الفلسطيني. ربما تتجه الأنظار نحو غزة من خلال إمكانية التصعيد على غرار ما حدث في معركة سيف القدس، وهو ما يقودنا إلى تفكيك هذا الأمر.
ربما استنساخ مشهد سيف القدس نموذجاً ليس هو المفضل حالياً. فالمقاومة الفلسطينية دشنت مرحلة جديدة ينظر إليها الاحتلال أنها ربطت ساحات العمل مع بعضها، وهو ما يجعل المعادلة قد تتغير لصالح زيادة العمليات في الداخل وليس حرباً مع غزة، وهو ما يمكن أن يقود إلي تصعيد مدروس من غزة يتطور وفقاً للأحداث وطبيعة سلوك الاحتلال.
فغزة كخزان قوة تريد استمرار وتدفق العمل في الساحات المتعددة، ومن نتائج المعركة أن جنين اليوم هي التي يحاول الاحتلال ردعها عبر طرق مختلفة ومحسوبة خوفاً من مغبة تفجر الأوضاع ودخول غزة على الخط.
فالمقاومة تريد ديمومة ساحات العمل والذي يزيد فرص استمرار الضغط على الاحتلال وتكبيده أثمان باهظة، مما ينتج عنه رضوخ الاحتلال وضرب نظريته الأمنية.
على صعيد آخر، كانت الحروب المتكررة على قطاع غزة في كل مرة لها أهداف مختلفة، وفقاً لطبيعة الزمان والمكان، فالمقاومة الفلسطينية تنظر إلى ذاتها أنها فتية، ويمكنها من خلال معارك قادمة تحقيق أهداف استراتيجية تساهم في تحرير فلسطين، حيث ترى القوى الفلسطينية أن الضفة المحتلة ساحة فعل استراتيجي مرتبطة بطبيعتها الجغرافية المرتفعة المطلة على نحو 4 مليون إسرائيلي على الساحل، فإن أي تغيير فيها، سيشكل علامة فارقة في تاريخ الصراع، لذلك الهدف تطوير مساحات الفعل فيها.
تأخذ الأحداث حيز التطور بين تقدم وتراجع مرتبط بالسلوك والرغبة للطرفين المقاومة والاحتلال. لكنها مرتبطة بسلوك الاحتلال أكثر ومدى استجابته لتهديدات المقاومة بمنع الطقوس الدينية في مدينة القدس.
في هذا الإطار يمكن أن تفضي الأمور إلي تصعيد محدود لا يصل إلى حرب مباشرة مع قطاع غزة على غرار سيف القدس وإنما ضرب في الغلاف (قذائف صاروخية قصيرة المدى، أو ضرب أهداف مباشرة عبر استهداف حافلات) بهدف عدم تشتيت الساحات الفلسطينية وبقائها مشتعلة. لكن ظروف الميدان يصعب التحكم بها وهو ما يضع احتمال الوصول إلى مواجهة شاملة.
يمكن القول إن الطرفين أقل رغبة في المواجهة (حرب مع غزة) لأسباب ذاتية فالاحتلال لديه حسابات متعددة كما ذكرنا سابقاً، والمقاومة تريد تحقيق الاستمرارية والديمومة في الساحات الفلسطينية المختلفة، وهو ما يتطلب إبقاء المشهد مشتعلاً من خلال زيادة كلفة الاحتلال والضغط عليه، بهدف تقليص دوره الإقليمي واشغاله، وزيادة فرص تفجير الأوضاع في أحشائه (العمق).
ويبقى أمر مهم في طبيعة التقدير والقرار لدى المقاومة في قراءة شكل المعركة القادم، وخاصة وأن التقديرات الأمنية والاستخبارية "الإسرائيلية" إبان معركة سيف القدس، أشارت إلى أن غزة غير معنية بالتصعيد وفي النهاية حدث خلاف هذا التوقع وتدحرجت الأمور إلى مواجهة واسعة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.