وإن كان ذلك قد جرى بطريقة شكلية، بحيث لم تكن العقوبات مؤثرة على الصناعات الدفاعية التركية، فقد اعتبرته تركيا حليفة واشنطن في الناتو مؤشراً غير إيجابي. رغم أن تركيا لا تزال تتعامل مع واشنطن كحليف وقد أجرى الطرفان مناورة للقوات البحرية في البحر الأسود في 10 فبراير/شباط الجاري.
ويُعتقد أن الإدارة الجديدة التي يقودها جو بايدن ترى أيضاً أن ملف S-400 هو الملف الرئيسي الذي من الممكن أن يؤثر الموقف منه على مستقبل العلاقات، وقد قال المبعوث الأمريكي السابق لسوريا جيمس جيفري إن المشكلة الرئيسية في العلاقات التركية الأمريكية هي شراء تركيا لمنظومة S-400 الروسية، وإنه لن يرى أي تغييرات ديناميكية في العلاقات التركية الأمريكية حتى تُحل هذه المشكلة. وذهب جيفري إلى أنه لا توجد وسيلة لتحسين العلاقات حتى يجري إصلاح مسألة S-400. بل مضى إلى أبعد من ذلك إلى القول بأن هذا الموقف هو موقف الإدارات الثلاث الأخيرة.
ولكن في الموقف نفسه تعتقد أطراف وازنة في الإدارة وعلى رأسها وزير الخارجية أنطوني بلينكن أن هذا الملف لابد من حله بطريقة يتم من خلالها كسب تركيا. ومع ذلك لم يخف بلينكن اعتباره لبعض تصرفات تركيا أنها لا تمثل تصرف حليف، وهو الأمر نفسه الذي تراه تركيا في موقف الولايات المتحدة من مليشيات PYD وPKK الإرهابية. وفي هذا السياق قال وزير الدفاع التركي في فبراير/شباط الجاري أن "القضية الأكثر حساسية في علاقاتنا هي دعمهم لفرع PKK في سوريا".
وقد عبر عن هذا الموقف سفير الولايات المتحدة في أنقرة ديفيد ساترفيلد الذي أعرب عن تمنيه إيجاد حل لملف S-400 وأنه "وفي حال تعذر الحل (بشأن المنظومة الصاروخية)، فإننا سنواصل التركيز على المجالات التي لا تتأثر بشكل مباشر بالعقوبات" التي فرضتها واشنطن على مسؤولين أتراك.
مؤخراً كررت تركيا وبشكل واضح الإعراب عن رغبتها في حل المشكلة مع واشنطن عبر الحوار، وقد أعلن ذلك وزير الدفاع التركي خلوصي أقار في مقابلة له مع صحفيين في شهر فبراير/شباط 2021 الجاري، وتضمنت وفق الفهم الأولي إمكانية العمل على تشغيل جزئي لمنظومة S-400 مع تشغيل منظومة S-300 التي تمتلك مثلها اليونان منذ عام 1990، ولكن الوزير ربط ذلك بتخلي واشنطن عن دعم مليشيا PYD.
وبينما لا تشير تصريحات أقار إلى احتمال تخلي أنقرة عن منظومة S-400، فإن تشغيل تركيا لمنظومة S-300 لا يبدو خياراً منطقياً في ظل تطور تكنولوجيا السلاح، ولهذا قد يكون الأقرب للمنطق هو إعادة التفاوض مع واشنطن حول منظومة باتريوت مع الاحتفاظ بتشغيل جزئي ومتفق عليه زمانياً مع حلف الناتو، وقد يكون هذا الحل الأنسب لعودة تركيا لبرنامج طائرات F-35.
وفي سياق متصل تبدو الأمور بين شد وجذب حيث كانت لهجة الناطق باسم الرئاسة إبراهيم قالن أقل تفاؤلاً عندما أكد عدم تراجع تركيا عن امتلاك S-400 وأن تصريحات أقار قد أسئ فهمها، وأنه لا ينبغي توقع حلول سريعة.
بالنظر إلى عدم وجود اتصال هاتفي على الأقل بين الرئيسين أردوغان وبايدن حتى الآن، ومع توجيه 54 من أصل 100 عضو من مجلس الشيوخ الأمريكي رسالة إلى بايدن تحمل معاني سلبية حول تركيا، وفي ظل تعيين بريت ماكغورك مسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي وهو معروف بدعمه لمليشيا PYD في شمال سوريا، وتشجيعه لاستفتاء الاستقلال الخاص بإقليم شمال العراق وهي ملفات ترفض أنقرة فيها الموقف الأمريكي فإن التوصل إلى حل في هذه الأجواء ليس سهلاً. ويضاف إلى هذا تصريح وزير الداخلية التركي الذي أشار فيه إلى دور ما لواشنطن في المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016.
ولكن مع وقوف تركيا وروسيا في أذربيجان وليبيا في جبهات متقابلة مؤخراً ومع مواجهتهما في سوريا في بداية العام 2020، واحتمال حصول توتر بين تركيا وروسيا في حال ارتفعت وتيرة الصفقات العسكرية والأمنية بين تركيا وأوكرانيا وخاصة في مجال الطائرات بدون طيار، فإن واشنطن قد ترى في ذلك فرصة وتكون أمام خيار تشجيع تركيا على العودة إلى موقف أقرب للمربع الغربي، ولا يتأتى هذا إلا من خلال إيجاد حل لمشكلة S-400 ومشكلة دعم واشنطن لوحدات الحماية شمال سوريا.
ختاماً، قد تكون الستة أشهر الأولى من إدارة بايدن 2021 والتي انقضى منها شهر حتى الآن فرصة جيدة للحوار والتباحث حول مسار التقارب، ولكن في حال لم يجرِ التوصل إلى اتفاق خلال هذه الفترة فإننا على أعتاب أزمة جديدة ستمتد إلى ما هو أبعد من S-400. ولكن على واشنطن أن تدرس حساباتها جيداً، وهذا أمر منتظر، فتركيا اليوم هي أقوى من تركيا الأمس، وفي حال أرادت واشنطن التوصل إلى حلول لبعض المشكلات الإقليمية، فإن تعاونها وتنسيقها مع تركيا سيكون ضرورياً للغاية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.