زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط (تموز/يوليو) التي قادته إلى إسرائيل أولاً ثم إلى المملكة العربية السعودية، وتُوِّجت بقمة جدة حول الأمن والتنمية حضرها علاوة على الجانب الأمريكي دول الخليج، بالإضافة إلى مصر والعراق والأردن، تؤشّر على تحوُّل في دور الولايات المتحدة في المنطقة.
يمكن القول بأن "السلم الأمريكي" Pax Americana، حسب تعبير الملاحظ الأمريكي فريد زكريا، وهي تورية للهيمنة، أخذ في الاهتزاز، وأن بؤرة هذا الاهتزاز هي منطقة الشرق الأوسط. لم يستطع الرئيس الأمريكي أن ينفخ الروح في مشروع "ناتو عربي"، وهي تورية لتحالف دول عربية من الشرق الأوسط وإسرائيل، يكون بمثابة رديف جهوي للناتو، على غرار حلف أكوس AUKUS (الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا) وكواد QUAD (الولايات المتحدة، الهند، أستراليا، اليابان)، لاحتواء إيران.
نعم، عبّر الرئيس الأمريكي عن عزم الولايات المتحدة على الانخراط في الشرق الأوسط، كي لا يقع في أيادي الصينيين والروس والإيرانيين. ولكن هل يكفي الرئيس الأمريكي أن يصرّح بذلك لكي تستعيد الولايات سؤددها Imperium في المنطقة؟
لم يستطع الرئيس الأمريكي أن يستخلص التزاماً مفتوحاً برفع حجم ضخّ البترول من قِبل السعودية. و ما إن انفضّت القمة بجدَّة حتى نفى رئيس الدبلوماسية السعودية الأمير فيصل بن فرحان أي نية في التطبيع مع إسرائيل، أو أي مشروع لـ"ناتو عربي".
ويُعتبر التطبيع ما بين الدول العربية وإسرائيل حجر الزاوية للسياسة الأمريكية تجاه الدول العربية. أما مصر فلم ترَ حرجاً في انتقاد مبطن لسياسة أمريكا في المنطقة بالمطالبة باستخلاص الدروس من الماضي، في أثناء انعقاد القمة، وطالبت إثرها بتفعيل مقتضى الدفاع المشترك المتضمَّن في ميثاق الجامعة العربية عوض اللهث وراء حلف دفاع غير واضح المعالم والأهداف.
وما إن غادر الرئيس الأمريكي المملكة العربية السعودية حتى اتصل وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، هاتفياً، بالرئيس الروسي لتأكيد استمرار التنسيق في دائرة منظمة أوبك. وهل هناك من استهتار بالولايات المتحدة كمكالمة لغريمها الروسي، عقب قمة معها؟ فهل أخذ الشرق الأوسط ينفلت من السؤدد الأمريكي، أو الهيمنة الأمريكية؟
بلا شك أتاحت الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، للدول العربية، أو على الوازنة منها على الأقلّ، أن تعبّر جهاراً عمَّا كانت تتستر عليه، في علاقتها بالولايات المتحدة، وشرعت تأخذ مسافة منها. الأحادية القطبية التي برزت عقب سقوط حائط برلين، وتبلورت في حرب الخليج (1991)، كانت وبالاً على العالم العربي، بما فيها الدول الحليفة للولايات المتحدة.
منذ اتفاقية كامب ديفيد لسنة 1979، أصبح الشرق الأوسط عبارة عن كوندومينيوم Condominium أمريكي، أو داخل دائرة نفوذها، يضاف إلى ما كان يسمى بـ"حلف كوينزي - Quincy"، وهي الباخرة التي جمعت على ظهرها الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي روزفلت، في فبراير/شباط 1945. وتَعزَّز هذا التوجُّه بعد حرب الخليج.
لا شيء يمكن أن يجري دون أمريكا في الشرق الأوسط، ولا شيء يمكن أن يقوم ضدّها. صاغ استراتيجيو واشنطن ما سُمّيَ حينها بعقيدة كلينتون التي تنبني على عقيد ترومان، وتضيف عليها، وفق مبادئ أربعة، هي أمن إسرائيل، وضمان تدفُّق البترول ومن ثمة حماية الدول الحليفة، والاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق، وفي آخر الترتيب يأتي الدفاع عن حقوق الإنسان والدمقرطة.
أحداث 11 سبتمبر/أيلول غيّرت من سُلّم الأولويات في دائرة ما يمسّ الحرب على الإرهاب. ولكنها لم تغيّر ممّا كان يسمى جزافاً بالسلّم الأمريكي، أو هيمنتها. الحرب على الإرهاب أتاحت للولايات المتحدة الانخراط القوي في الشرق الأوسط، الذي كان يُنظَر إليه حسب الصحافي توماس فريدمان، كمحطة بنزين، والحال أنه، حسب تعبيره، مشتل للراديكالية. بزوغ الراديكالية الإسلامية فرض على الأنظمة العربية في الشرق الأوسط قبول الإملاءات الأمريكية، سياسياً، وعلى المستوى الأمني، بل حتى في الميدان الثقافي.
اعتبرت الولايات المتحدة الحرب على العراق المدخل لصياغة شرق أوسط مغاير، وعالم عربي جديد، على غرار ما قامت به الولايات المتحدة في ألمانيا واليابان عقب الحرب العالمية الثانية، بيد أن التدخُّل الأمريكي في العراق كان بمثابة دخول فيل في حانوت خزف.
كان فشل الولايات المتحدة ما دفع الرئيس أوباما إلى التخلي عن الشرق الأوسط، وهو ما عبّر عنه في حوار مثير للجدل مع مجلة "أتلانتك مونثلي" سنة 2016، يشير فيه بالنأي عن السعودية ودول الخليج. وهو حدث تهيأ لحلقة ترامب، التي اختزلت الشرق الأوسط في ما سُمّي باتفاق إبراهام، أو السلم من أجل الأمن.
كانت مصر الحليف الثاني المهمّ للولايات المتحدة في المنطقة. لم تخرج مصر من المعادلة التي وضعها السادات، من أن 99 في المئة من الأوراق بيد الولايات المتحدة، وواحد في المئة في العالم العربي، فلمَ الرهان على واحد في المئة إذا كانت التسع والتسعون تقدّم عرضاً مغرياً؟
لكن مصر تدرك أن المعادلة خاطئة، وأنه بغضّ النظر عن لغة الأرقام، فالأمن الاستراتيجي لمصر هو في إفريقيا، ومجالها الحيوي هو العالم العربي.
النموذج أو البارديغم الأمريكي الذي اختُزل في اتفاق إبراهام، أصبح متجاوَزاً، والسياق الحالي يتيح للدول العربية، أو الوازنة منها، أن تعبّر جهاراً عمَّا كانت تستر عنه، ولكن في الوقت ذاته يفرض عليها مراجعة سياساتها. والمتتبّع لشؤون الشرق الأوسط يلحظ إرهاصات تغيير في سياساته الداخلية والخارجية.
وبوضوح، لا تريد دول المنطقة أن تكون وكيلاً لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط، فهي تسعى لترسم استقلاليتها، بالخروج من الزمن الأمريكي، كما سبق أن خرجت مما كان يُسمَّى باللحظة البريطانية The British Moment التي انتهت عملياً مع العدوان الثلاثي سنة 1956.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.