المحرك الأساسي لهذه الأزمة المتصاعدة، هو الخطوات الجريئة جداً التي خطتها وتخطوها الأمم المتحدة كما رأينا في الحديدة، تاركة خلفها الحكومة الشرعية بلا دور تؤديه أو فعلٍ تقررُ من خلاله مصير الأحداث العسكرية والسياسية، وعلى نحو يكرس هامشية هذه الحكومة في مشهد مضطرب تتخلق منه أدوار أطراف يفترض أنها متمردة على الحكومة ومع ذلك لا تتردد الأمم المتحدة عبر مبعوثها في تمهيد الطريق أمامها لتصبح هي المتحكم الرئيس في صيرورة الأحداث السياسية والعسكرية في البلاد.
فبعد أيام من الإحاطة التي قدمها المبعوث الاممي إلى اليمن مارتن غريفيث أمام مجلس الأمن الدولي في الـ15من شهر مايو/أيار الفائت، وأشاد فيها بخطوة الانسحاب الأحادي الجانب، وكال الثناء لزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، وجه الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي رسالة إلى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ضمنها جملة من الاتهامات ضد غريفيث بارتكاب تجاوزات وصفت بغير المسبوقة، ومنها أنه "يصر على التعامل مع الانقلابيين كحكومة أمر واقع ومساواتها بالحكومة الشرعية".
وجه الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي رسالة إلى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غريفيث ضمنها جملة من الاتهامات ضد غريفيث بارتكاب تجاوزات وصفت بغير المسبوقة.
وتضمنت تلك الاتهامات ما اعتبره الرئيس هادي "موقفا عملياً سلبياً للمبعوث الأممي من قرار مجلس الأمن رقم (2216) بشأن اليمن والعمل على تجاوزه وبقية القرارات من خلال تبنيه لإطار سياسي للمفاوضات خارج سياق القرارات الدولية وخارج إطار ما توصلت إليه جولات المشاورات التي سبقت مشاورات السويد".
رسالة الرئيس هادي جاءت على خلفية قلق من أعلى مستوى في الحكومة من تحركات غريفيث التي أقرت الانسحاب الصوري للحوثيين من موانئ الحديدة الثلاث دون أن يتمكن الفريق الحكومي في اللجنة المشتركة لتنسيق إعادة الانتشار من التحقق من مصداقية الانسحاب.
لذا جاء رد فعل الرئيس حاسماً هذه المرة لجهة التأكيد على عدم رغبة الحكومة في الاستمرار بالتعامل مع المبعوث الاممي، ما لم يلتزم بشكل كامل بالمرجعيات الأساسية للحل في اليمن وهي: قرارات مجلس الأمن واتفاق المبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
وأكثر ما يبشر باستمرار أزمة الحكومة مع الأمم المتحدة، هو رد الأمين العام للأمم المتحدة على رسالة الرئيس هادي الذي جاء من وجهة نظر الحكومة ومؤيديها مخيباً للآمال، بإصراره على تأكيد ثقته بمبعوثه إلى اليمن.
وفي تقديري أن رد غوتيريش متوقع، لأنه إن وافق الرئيس على الاتهامات التي ضمنها رسالته، فسوف يعني ذلك نهاية لدور المبعوث الحالي البريطاني الجنسية وتثبيت التهمة على الأمم المتحدة بأنها لا تحسن إدارة الأزمة وتسعى بالإضافة إلى ذلك نحو تثبيت الانقلابيين الحوثيين على مكاسبهم السياسة والعسكرية، والمساهمة في تآكل دور ونفوذ السلطة الشرعية التي تدور الحرب في اليمن تحت مظلتها واحتماء بمشروعيتها وانتصاراً لدورها ونفوذها المفقود.
التحول الخطير في الدور الأممي نحو منح المزيد من المشروعية لسلطة الأمر الواقع والتي يهيمن عليها الحوثيون في صنعاء، ترافق مع فشل واضح في إنفاذ الأجندة الإغاثية والإنسانية بعد نشر وثائق تكشف تورط الوكالات التابعة للأمم المتحدة في تبديد أموال المساعدات الدولية المقدمة لضحايا الحرب وهم الغالبية العظمى من الشعب اليمني المغلوب على أمره، ووجود معطيات تؤكد أنها تغطي على أشكال أخرى من نهب المساعدات العينية، وتجييرها لصالح المجهود الحربي للحوثيين.
لا يبدو أن الأمم المتحدة تكترث للانتقادات الحكومية، إذ لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عن تقديمه (20) مركبة للبرنامج الوطني لنزع الألغام، وهو واحد من عشرات المؤسسات الحكومية الموازية التي تتواجد في صنعاء وتنازع السلطة الشرعية ولايتها.
والأخطر من ذلك أن البرنامج الإنمائي شدد في بلاغه الصحفي بهذا الخصوص، على أن المنحة تأتي في سياق دعم شركائه في اليمن، وأنها ستُستخدمٌ في نزع الألغام في الحديدة، أي أن المنظمة الدولية ووكالاتها تطلق يد الحوثيين في الانسحاب الأحادي الجانب غير الخاضع للرقابة والتحقق، وتمنحهم في الآن ذاته فرصة أخرى تتمثل في التخلص من الألغام التي زرعوها، دون أن تتوفر أي دلائل على أنهم يمكن أن يقوموا بهذه الخطوة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى فتح الطريق أمام تقدم سهل للقوات الموالية للحكومة والمتواجدة في وسط المدينة.
عملت أبو ظبي منذ الساعات الأولى لحرب التحالف إلى تقويض الشرعية وتمكين القوى المناهضة لمشروع الدولة اليمنية الموحدة.
الحكومة وعبر وزير الإعلام معمر الإرياني، سارعت إلى وصف المنحة الأممية الجديدة للحوثيين، بأنها فضيحة أممية واستهتار بدماء اليمنيين، انطلاقاً من قناعات راسخة بأن الطرف الوحيد الذي يقوم بزرع الألغام في البلاد هم الانقلابيون الحوثيون فقط وليس سواهم، خصوصاً وأن الحوثيين لم يكتفوا باستخدام الألغام التي ورثوها من تركة الجيش اليمني القديم، بل قاموا وبخبرات إيرانية بصناعة أنواعٍ مختلفةٍ من الألغام المموهة التي تحصد العشرات من المدنيين والعسكريين، وتمثل بالنسبة للحوثيين أحد الأسلحة المهمة التي تُستخدمها في سياق المواجهة العسكرية الشاملة مع الجيش الوطني وقوات التحالف.
لم يعد الحوثيون الطرف الوحيد المستفيد من المعول الأممي الذي يهدم مبنى السلطة الشرعية المنبوذة في الرياض. فالمتمردون الجنوبيون الذين يتجمعون في إطار تشكيلات عسكرية متنامية النفوذ والتأثير في جنوب البلاد ضد السلطة الشرعية، أصبحوا هم أيضاً جزء من أجندة جريفثيس الخطيرة، وهي الأجندة التي تتناغم بشكل واضح مع مخطط الإمارات في اليمن، حيث عملت أبو ظبي منذ الساعات الأولى لحرب التحالف إلى تقويض الشرعية وتمكين القوى المناهضة لمشروع الدولة اليمنية الموحدة من مقاليد الأمور كما هو الحال بالنسبة للمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يتصدر المشروع الانفصالي في جنوب البلاد منذ مايو/أيار 2017.
وفي تقديري لا يوجد شيء يمكنه أن يثير حساسية وغضب الرئيس عبد ربه منصور هادي، من أن يتمادى جريفثيس ومن خلفه الأمم المتحدة في الدفع بالمجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي) إلى احتكار التمثيل السياسي للجنوب مستفيداً من القوة العسكرية الضاربة التي تحت سيطرته، وأن يتحول هذا المجلس شيئاً فشيئاً وبإيعازٍ واضحٍ من الإمارات، إلى القوة السياسية الجنوبية، التي ستحسم مصير البلاد بالشراكة مع الحوثيين الذين يزداد نفوذهم بفضل الدعم الوقح الذي يقدمها حكام أبو ظبي، والتغطية التي توفرها الأمم المتحدة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.