ولعلّ هذه الحالة تتضح بصورة واسعة في الجنوب السوري المتمثل بالمحافظات الثلاث (درعا والسويداء والقنيطرة)، لا سيما مع انسحاب الروس من هذه المنطقة.
الروس، الذين وجدوا أنفسهم يخوضون في مستنقع حربهم ضد أوكرانيا، باتوا يدركون أن هذه الحرب تحتاج إلى نقل كثير من قواتهم من سوريا إلى أوكرانيا، لتعويض خسائرهم البشرية الكبيرة هناك، وهو أمر لن يمرّ دون تغييرات تؤثّر في الوضع السوري عموماً، وفي وضع جنوبه خصوصاً.
إن تصريحات ملك الأردن عبد الله الثاني الأخيرة، التي ذكر فيها أن "الانسحاب الروسي من جنوب سوريا سيخلق فراغاً أمنياً"، كانت تشير بالضرورة إلى ما يجري على الحدود السورية-الأردنية، حيث تحاول القوى الموجودة على الطرف السوري تهريب المخدرات عبر حدود الأردن، ومثل ذلك يشكّل تهديداً حقيقياً لأمن وسلامة المملكة الأردنية.
القوى الموجودة في الجنوب السوري تتمثّل بقوات مليشيا الفرقة الرابعة، التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري، وبمليشيات تتبع إيران، تضمّ مقاتلين من لبنان والعراق، تنتشر في مناطق مثل تل الشعّار وتل الكروم في محافظة القنيطرة المتاخمة لمحافظة درعا.
هذه القوات تقوم بعمليات قذرة، فهي مسؤولة عن تصنيع المخدرات، والتجارة بها في الداخل السوري، أو تعمل على تهريبها نحو دول الجوار السوري. ليس هذا فحسب، بل إن هذه المليشيات تلعب دوراً خطيراً في تغيير البنية السكانية في جنوب سوريا، لتأمين نفوذ إيراني بعيد المدى في هذه المنطقة السورية الهامة، عبر شراء الأراضي والعقارات وغيرها.
الجنوب السوري يتاخم حدود إسرائيل وحدود الأردن، مما يجعل من المليشيات المنتشرة فيه عامل تهديد أمني عليهما، وهو أمر يهدّد في جوهره استقرار الأردن بالمعنى السياسي والأمني، ويشكّل كما تقول القيادات الإسرائيلية تهديداً لأمن إسرائيل، وهذا تبلور في مطالب إسرائيلية سابقة، نصّت على ضرورة ابتعاد المليشيات الإيرانية عن حدود الدولة العبرية مسافة 70 كم.
ولعل المطالب الإسرائيلية بهذا الشأن كانت محور تفاهمات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإسرائيل عام 2017، لكنّ الروس لم يلتزموا تنفيذ هذه التفاهمات، وهو ما دفع إسرائيل إلى شنّ غارات جوية أو القيام بضربات صاروخية ضد الوجود الإيراني في سوريا، وتحديداً في مناطق الجنوب السوري.
هذا الوجود المليشياوي الإيراني يشكّل الآن خطراً وجودياً على الدولة الأردنية، حيث تقوم أذرع إيران في محافظة درعا بشراء العقارات لصالح إيران، تمهيداً لجعل هذه المنطقة قاعدة عمل استراتيجي لها، وهو ما يشكّل تهديداً حقيقياً للأردن، يتجلى عبر جعل الأردن سوقاً وممراً لتجارة وتهريب المخدرات باتجاه دول الخليج العربية، هذا التهديد يأتي كأداة في محاولة فرض الهيمنة السياسية وربما أكثر من ذلك على الأردن.
إن تصريحات الملك عبد الله الثاني بشأن الانسحاب الروسي من الجنوب السوري تعني دقّ ناقوس خطرٍ يهدّد أمن واستقرار ليس الأردن وحده ولكن العديد من الدول العربية، وهذا يتطلب إعادة صياغة للسياسة والمواقف الأردنية من هذا الخطر، ولا يعني ذلك أن تقوم القوات العسكرية الأردنية بشن هجمات على المليشيات الإيرانية في الجنوب السوري، فمثل تلك الهجمات قد تفتح حرباً مع النظام السوري وحليفته إيران، وهذا ما لا يريده الأردن في ظلّ الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية.
إن وجود مليشيات إيران في الجنوب السوري لا يشكّل تهديداً لجيرانها فحسب، بل يهدّد المصالح الوطنية لسوريا، فوجود مليشيات كهذه يلعب دوراً في تفتيت البنى الاجتماعية السورية، انطلاقاً من استغلال حاجات السوريين الاقتصادية والمعيشية، ومن خلال ما تمارسه إيران من سياسات تصفية ضد اللواء الثامن، الذي تعتبره ذراعاً روسية تقف في وجه مطامعها وسياساتها في جنوب سوريا، باعتبار أن قوات اللواء الثامن هي من أبناء الجنوب السوري، وتحديداً من أبناء محافظة درعا.
إن الدور الذي تلعبه مليشيات إيران في الجنوب السوري لا يخرج عن استراتيجيتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، فإيران لن تستطيع الاحتفاظ بنفوذ كبير لها في الجنوب، بلا أذرع عسكرية، وطابورٍ من السماسرة والمهرّبين، الذين ينفّذون أجندتها الاستراتيجية في هذه المنطقة وفي سوريا، هذه الأجندة تشكّل خطراً جديداً على استقرار المنطقة، لأنها تتعارض مع مصالح شعوبها ودولها.
ولكن ينبغي طرح الأسئلة حول خطر "المليشيات الإيرانية" هذا بصورة شفّافة، والسيناريوهات المحتملة لمواجهته من دول الإقليم، فبغير ذلك سيزداد خطر هذه المليشيات، مما يُدخِل المنطقة في صراعات جديدة تؤثّر في استقرارها ووجودها، الأمر الذي تعمل عليه إيران لتمرير مشروعها (الهلال الشيعي)، الذي يربط برِّيّاً بين طهران والبحر المتوسط في لبنان وسوريا، عبر مروره من العراق والأراضي السورية.
إن تصريحات ومخاوف الملك عبد الله الثاني من الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الروسي من سوريا، إنما هي تصريحات ومخاوف تحاول تلَمُّس مخارج حقيقية للصراع السوري، مما يعني أن فرض حلٍّ سياسي دولي وفق القرارات الدولية هو المخرج الرئيس لإنهاء حالة الفلتان الأمني والعسكري، هذا الفلتان تُحدِثه مليشيات تتبع إيران، مثل مليشيا حزب الله اللبناني، ونظيراتها المليشيات العراقية.
إن تحصين الحدود الأردنية من محاولات هجمات عمليات تهريب المخدرات صار أكثر من ضرورة، وبات يتطلب استراتيجية أمنية وسياسية أردنية جديدة، تستطيع السيطرة على هذه التهديدات، ولعلّ فكرة دعم وتقوية فصائل الثورة السورية المعادية للوجود الإيراني لسوريا يخدم الأمر، مع الانتباه إلى أن موقفاً كهذا له تبعات لاحقة تهدّد أمن الأردن وسلامة أراضيه، وهو أمرٌ يتطلب دعماً إقليمياً ودولياً لهذا الخيار الأردني.
إن انسحاب الروس التدريجي من سوريا سيخلق تعقيدات على مستوى الصراع في هذا البلد، وهو يعني من زاوية أخرى ازدياد مراهنة طهران على أهمية زيادة تدخلها في سوريا، وفي منطقة الجنوب السوري، مما يدفعها إلى مزيد من الإصرار على تهريب المخدرات بأساليب مختلفة، لأن ذلك يؤمّن تمويل عملياتها وقدرتها على تنفيذ أجندتها.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.