يفسر غالبية المثقفين العرب، الموقف الأمريكي من فلسطين، من خلال الفهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيوني، حيث لا يزال كثير من مثقفينا ومفكرينا ومحللينا، يصرون على أن جماعات الضغط اليهودي في أمريكا هي التي تُشكل وتُحدد السياسة الأمريكية، وأن هذه الجماعات لها قدرة كبيرة على التأثير في الانتخابات الأمريكية؛ ومن ثم تحديد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، في اتجاه تحقيق التأييد والدعم للكيان الصهيوني.
إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي"، الأمر الذي تُرجم، في النهاية، إلى معنى سياسي، هو توافق القيم الأمريكية، والإسرائيلية.
فالكتاب المقدس، يُشكل العمود الفقري للعقل السياسي في نسخته الأمريكية؛ ويساهم، إلى درجة كبيرة، في صنع الرأي العام الأمريكي، وثقافته، وسياسته تجاه محددات الصراع، وموقفه من العدو الصهيوني. وهذا يدحض فرية "اللوبي اليهودي"، والتي يستند إليها بشكل شبه حصري العقل العربي، والإسلامي، لتبرير الفشل المزمن في مواجهة أمريكا.
يستعرض كتاب "فلسطين في العقل الأمريكي: 1492 ــ 1948" في بابه الأول، "نحو قيام الأمة المشمولة بالعناية الإلهية"، علاقة الأطماع الاقتصادية بالدين. فلقد شمل تمويل حكام إسبانيا مشروع كولومبس، خطة أكبر بكثير من مشروع استكشاف الهند.
ففي سريرته كانت هذه الرحلة الخطوة الأولى في حرب صليبية، يستطيع بها ملكا إسبانيا وكولومبس استعادة الأراضي المقدسة وإرجاعها إلى الدين المسيحي.
فقد سيطر على كولومبس تصوَّره لنفسه، كأداة في يد العناية الإلهية، التي اصطفته لتحقيق النبوءات، وبخاصة المتعلقة بتحرير القدس.
هكذا، شرعت أمريكا، عقب اكتشاف كولومبس إياها، سنة 1492، إلى تطبيق النصوص الحَرفية للكتاب المقدس، بحملاتها التوسعية في القارة الجديدة.
ففي الفكر المسيحي، أخذ تأسيس أمريكا، الصورة المقابلة لتأسيس بني إسرائيل، فتتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى "أورشليم الجديدة"، حيث أخذت الرموز التوراتية تهيمن على الحياة الأمريكية. فـنشأة أمريكا كانت نتيجة اندفاعة دينية، وكان خطاب المهاجرين يتألف من إسقاط قصص الكتاب المقدس على تجربتهم، ومن عالم الخيال الكتابي، استقوا إرثهم الأسطوري.
لقد وجد في التاريخ الأمريكي، منذ بدايته الأولى، ميلاً مسيحياً قوياً، للاعتقاد بأن المجيء الثاني متعيَّن أن يظل رهيناً بإنشاء الدولة اليهودية، التي يلتئم فيها شمل اليهود. وخلال السنوات الأولى من "حياة الأمة الجديدة"، كُتبت أعدادٌ هائلة من الكتب، والكراريس، والمواعظ، والخُطب، تدعو إلى إعادة اليهود إلى فلسطين. وفي بداية القرن الثامن عشر، سيطر على العقل الأمريكي، فكرة أن المجيء الثاني للمسيح، رهينة بإعادة اليهود إلى فلسطين.
"تخيُّل الشرق الأوسط"، وهو الباب الثاني من الكتاب، فيشير إلى علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق، فمصطلح "الشرق الأوسط"، ابتكره الأدمريال الأمريكي، ألِفرد ثاير مِهان، عام 1902.
تمخض القرن التاسع عشر عن كتيبات، ومؤلفات عديدة، لكثير من الرحّالة، الذين كتبوا عن الشرق العربي، مسجلين وصفهم له، وانطباعاتهم عنه. وقد أسهم أدب الرحلات إسهاماً فعالاً، في نقل صورة المنطقة العربية، وتحليلها.
لم يكن للقارئ الأمريكي تصوّر واضح عن شرقنا العربي، وشعبه، ولم تتجاوز معرفة الكثير من الناس بهذا الشرق، حدود تلك الصورة الرومانسية ذائعة الصيت، التي سيطرت على العقل الغربي، لفترة طويلة من الزمن، منذ الحروب الصليبية.
فقد ورثت الولايات المتحدة الأمريكية، صورة الشرق، حسبما وضعتها أوروبا، فالاستشراق الأوروبي ظل مؤثِّراً، ومهيمناً في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق، كما ورث المستشرق الأمريكي الجديد، "مواقف العدائية الثقافية، واحتفظ بها".
واستناداً على هذه الصورة النمطية للشرق، تناول الباب الثالث من الكتاب، مغامرات في "الأرض المقدسة"، تأسيس "مجلس المفوِّضين الأمريكيين بالإنجيل في الأراضي الأجنبية" (The American Board of Commissioners for Foreign Missions)، واختصاره (ABCFM)، عام 1810.
وقد انطلقت إرساليات المجلس الأمريكي من بوسطن، عام 1819، لـ"العودة إلى أرض الميعاد المقدسة، في حملة صليبية غير مسلحة". تلتها مرحلة استكشاف فلسطين، والسير على خطى "بني إسرائيل" المُتخيلة، التي بدأها إدوارد روبنسون، وإيلي سميث، في العام 1838، وتبعه وليم فرانسيس لينش، في العام 1847. وفي القرن التاسع عشر، انطلقت جماعات أمريكية، إلى "الأراضي المقدسة" لإنشاء مستوطنات، في سبيل التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح.
في سنة 1891، تقدَّم وليام بلاكستون، بــ"عريضة" إلى الرئيس الأمريكي، بنيامين هاريسون، مطالبًا بتدخُّل أمريكا، لإعادة اليهود إلى فلسطين. وجمع على العريضة توقيعات 413 من كبار الأمريكيين المسيحيين البارزين. لقد كُتبت "وثيقة بلاكستون"، قبل خمس سنوات، من نشر الأب الروحى المؤسس للحركة الصهيونية الحديثة، تيودور هرتزل، كتابه "الدولة اليهودية... وتأسيس الحركة الصهيونية".
وأخيراً، وفي فصل، "السياسة الأمريكية تجاه فلسطين: 1917 ـ 1948 "، فقد تتم استعراض الدور الأمريكي في إصدار "وعد بلفور"، فـ"الصهاينة الأمريكيون كانوا مسؤولين عن النص النهائي لوعد بلفور".
جاء التأييد الأبرز لوعد بلفور من الرئيس الأمريكي ويلسون، وأصدر مجلس النواب الأمريكي، في 30 يونيو/ حزيران 1922، قراراً أيد فيه "إعطاء بني إسرائيل الفرصة، التي أُنكرت عليهم طويلاً، لإعادة تأسيس حياة يهودية، وثقافة مثمرة في الأرض اليهودية القديمة". كما أصدر الكونجرس، سنة 1935، قراراً طالب فيه حكومته، "ببذل جهودها من أجل فتح باب الهجرة اليهودية، غير المقيَّدة إلى فلسطين، لتمكين (الشعب اليهودي) من (إعادة بناء) فلسطين، كدولة حرة".
ومنذ مطالع أربعينيات القرن الماضي، بدأ نشاط واضح، في المؤسسات الصهيونية بالولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي صيف 1940، انتقل مركز الثقل في النشاط السياسي الصهيوني إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً في إقرار مشروع قرار تقسيم فلسطين، وما كان قيام "إسرائيل" في فلسطين ليُحرز أغلبية الثلثيْن، في هيئة الأمم المتحدة، لولا ضغط أمريكا على بعض الدول، وتغيير الأخيرة موقفها في آخر لحظة، نتيجة لهذا الضغط.
إذن، لفلسطين لدى الولايات المتحدة شأن آخر، فهي ليست مجرد "استراتيجية"، أو اقتصاد، أو "مجال حيوي"؛ وبالتأكيد، فهي ليست بسياسة خارجية، إلا في الإطار البيروقراطي. فمادام إنشاء أمريكا وتاريخها، لم يكن إلا تأسياً بفكرة "إسرائيل" التاريخية، فالأمريكيون ورؤساؤهم، على اختلاف مذاهبهم، ومشاربهم، لا يتفقون على شيء، كاتفاقهم على المشروع الصهيوني، الذي يشربه الأمريكيون مع حليب أمهاتهم، ثقافياً، وتاريخياً، وتربوياً، وإعلامياً، ودينياً، ومثلاً أخلاقياً أعلى.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.