وقد أكَّدت هذه الاتفاقيات وَفْقاً للرئاسة التركية تعزيز العلاقات التركية-الليبية، واستمرار تركيا في الانخراط في العلاقات مع ليبيا، وموقفها الداعم والقوي خلف حكومة الوفاق.
على الجانب البحري أكَّدت الاتفاقيات السيادة على المناطق البحرية بما يهدف إلى حماية حقوق البلدين ضمن القانون الدولي في وقت تتصاعد فيه التوتُّرات، تحديداً شرق البحر المتوسط بسبب التنافس الدولي والإقليمي على منطقة متزايدة الأهمِّيَّة بعد الاكتشافات الأخيرة لموارد الطاقة فيها. لذلك لم تتلقَّ كل من مصر واليونان اتفاقية السيادة البحرية والملاحية بارتياح، إذ اعتبرتها اليونان خطراً عليها ومخالفة للقانون الدولي.
إن اهتمام تركيا بليبيا ليس جديداً، فهو يرجع في جذوره إلى عهد الدولة العثمانية. ومؤخراً أيضاً كان اهتمام تركيا بليبيا سابقاً للربيع العربي، ولكنه تَعزَّز بعد ذلك، بخاصَّة بعد استيلاء اليونان على 39 ألف كيلومتر مربع بحري تعود لليبيا، مستغلة الحالة الفوضوية التي سقطت بها البلاد بعد سقوط نظام القذافي وَفْقاً لما ذكره الكاتب الصحفي التركي يوجال كوتش في مقاله في صحيفة تركيا، وهذا ما يمنحها الاستيلاء على كل احتياطيات الطاقة المكتشفة في محيط جزيرة كريت.
ويحاول اليونانيون إكمال هذه اللعبة من خلال دعم حفتر، فيما قررت تركيا وقف هذه المخططات المعادية لبلد عربي من خلال دعم حكومة الوفاق الشرعية.
لقد ضربت تركيا من خلال هذه الاتفاقية مخططات التضييق عليها شرق المتوسط من جهة، كما أنشأت حاجزاً بحريّاً بين اليونان وقبرص من خلال تحديد منطقة الجرف القاري بينها وبين ليبيا.
كما تُعتبر هذه الاتفاقية حساسة لكل من مصر وإسرائيل كما هو موضح في الخارطة التالية، إذ تنسف هذه الاتفاقية محاولات التضييق على جهود تركيا في التنقيب عن الغاز شرق المتوسط.
وليس هذا فحسب، فقد تم منع محاولة اليونان لإبرام اتفاقية تقييد بحري مع قبرص ومصر استناداً إلى جزر كريت وكاسوت وكارباثوس ورودس وميس.
والجدير بالذكر أن توصُّل تركيا إلى هذه الاتفاقية لم يأت من فراغ، فقد بدأت جهودها للتوصل إلى ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا عام 2009، وهو العام الذي أعلنت فيه ليبيا منطقتها الاقتصادية الخالصة، وبناء عليه بدأت القوات البحرية التركية دراسة خطط المنطقة ومستقبلها وأعدت الخرائط اللازمة.
ووَفْقاً لصحيفة صباح فقد حمل رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان الخرائط في نوفمبر 2010 وذهب إلى ليبيا، ولكن مرت أشهر قليلة ثم بدأت الحرب في ليبيا لتتوقف المحادثات، وقد عادت المحادثات مرة أخرى في نوفمبر 2018 بعد زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أقار لليبيا. ولكن أيضاً بعد أقل من شهر بدأ خليفة حفتر حملة للإطاحة بالحكومة الشرعية في طرابلس.
إن ما يعطي أهمِّيَّة لهذه الاتفاقية بين تركيا وليبيا أنها لا تغيِّر قواعد اللعبة على مستوى ثنائي فحسب، بل على مستوى عبر إقليمي، فهي تتعلق بمصر وإسرائيل واليونان وقبرص الرومية وتركيا وليبيا، وأيضاً الشركات الدولية التي تعمل في قطاع الطاقة والدول المستقبلة للطاقة وفي أوروبا على وجه الخصوص.
ويشمل ذلك حتى الدول المصدِّرة للطاقة مثل روسيا (روسيا لها دور أكبر من استثمارات الطاقة التقليدية)، فالاحتياطيات المكتشفة في الجزء الجنوبي الشرقي من جزيرة كريت المسمَّى هيرودوت تُقدَّر بنحو 3.5 تريليون متر مكعَّب من الغاز.
وكما ذكر تقرير صحيفة صباح فإن إجمالي احتياطيات النِّفْط والغاز في شرق المتوسط يلبِّي احتياجات تركيا من الغاز والنِّفْط لما يصل إلى 570 عاماً، ويقع معظم هذه الاحتياطيات في المياه الإقليمية لتركيا ودولة شمال قبرص.
إن الخطوة التي قامت بها تركيا مع حكومة الوفاق خطوة كبيرة، ومن المتوقَّع أن تحدث ارتدادات من الدول المتنافسة مع تركيا ليس أقلها تقديم مزيد من الدعم لحفتر في طموحه للقضاء على حكومة الوفاق، وهو الأمر الذي تدركه تركيا، لذلك ألحقت تركيا بالاتفاق البحري اتفاقاً آخر أمنيّاً-عسكريّاً.
وينسجم مع هذا وصول رئيس مجلس النواب المنعقد بطبرق، عقيلة صالح، في 2 ديسمبر/كانون الثاني الجاري، إلى السعوديَّة، في زيارة مفاجئة التقى خلالها العاهل السعوديّ سلمان عبد العزيز. ومن المرجح أن يبدأ برلمان طبرق إجراءات لنزع الشرعية عن حكومة السراج ومطالبة الجامعة العربية والأمم المتَّحدة بعدم الاعتراف بها.
ومن المعلوم أن الدعم اللوجيستي التركي غير المباشر ساهم بشكل كبير في إحباط حملة حفتر الأخيرة مطلع العام على طرابلس، بل أدت إلى خسارته مواقع كان يسيطر عليها قبل العملية.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الاتفاقية التركية-الليبية تأتي في الوقت الذي تتكثف فيه المعارك حول طرابلس، بجانب الشكوى المستمرة من حكومة الوفاق بافتقارها إلى الأسلحة الكافية لدعم جهودها في صدّ انقلاب حفتر، وهو عكس ما يحدث مع جيش حفتر الذي يتلقَّى الدعم من الإمارات ومصر بشكل صريح ومن فرنسا بشكل غير صريح.
أخيراً يمكن القول إن تركيا ثبتت مع حكومة الوفاق حقيقة على الأرض من خلال الاتفاقيات قبل انعقاد مؤتمر برلين للحلّ في ليبيا في 10 ديسمبر/كانون الثاني. وقد أربكت هذه الخطوة كل داعمي حفتر. وفيما يعتقد مبعوث الأمم المتَّحدة غسان سلامة أن تداعيات هذه الخطوة يمكن أن تهدِّد نجاح مؤتمر برلين، فإن الحقيقة أن حملة حفتر لاحتلال طرابلس نسفت أي نجاح للمؤتمر قبل ذلك بوقت طويل.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRTعربي.